لم يتوقّف العُدوان الصهيوني على قطاع غزّة، ولم ينته التدمير. ورغم ذلك، يلوح في الأفق البعيد سؤال إعادة الإعمار، ويتلجلج في نفوس الجميع، بل إنها مسألة لا تغادر جميع الملفات المتعلقة بالعُدوان المستمرّ منذ أكثر من أربعة أشهر، وتجدها حاضرة في مسار المفاوضات، وصفقات وقف إطلاق النار، واتفاقات التهدئة، يهتم بها الجانب المعتدِي على حدٍّ سواء مع المعتدَى عليه، فبالنسبة للمُعتدِي يريد ممارسة مزيد من التحكّم والإذلال، وبالنسبة للمعتدَى عليه فهو يحتاج إليها كأولوية قصوى مثل الغذاء والماء.
بشكل عام، عملية إعادة إعمار المناطق الخارجة من النزاعات متكاملة، لا تتعلق بجزء واحد دون بقية الأجزاء، ولذلك هي مجموعة شاملة من الإجراءات الساعية إلى تلبية الاحتياجات اللازمة للمتأثرين من النزاع، والحيلولة دون تصاعده، وتفادي العودة إلى القتال، وكذلك معالجة الأسباب الجذرية له، وتدعيم السلام المستدام. وذلك كله من خلال أربع ركائز أساسية: الأمن، والعدالة والمصالحة، الرفاه الاجتماعي والاقتصادي، والحوكمة والمشاركة، لكن، وبكل أسف، حتى هذا الأمر النظري، لا ينطبق على ما يحصل في قطاع غزّة، لسببٍ واحد هو ضخامة المأساة، وهول الكارثة، بحيث يبدو الأمر أشبه ما يكون بحالة الدمار الكامل الذي كانت عليه أوروبا نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، وبالتالي، فقطاع غزّة بحاجة إلى مشروع مارشال جديد يعمل على إعادة الإعمار، والنهوض بالحياة، كما فعل ذلك في أوروبا، إلا أنّ الفوارق كثيرة وكبيرة بين الحالتين، فمشروع التدمير الممنهج الذي يحصل في قطاع غزّة، يتم بدعم كامل وموافقة من الولايات المتحدة التي قادت مشروع مارشال لإعادة إعمار أوروبا. والفرق الثاني، أن الحرب التي انتهت عام 1945 بانتصار طرفٍ واستسلام آخر ليست هي نفسها في الحالة الفلسطينية، فلا ضمان ولا ضامن، يقدر على منع تكرار الحرب، وحدوث التدمير نفسه بعد سنوات قليلة وربما بوتيرة أعلى، هكذا هي دولة الاحتلال، تجنح إلى الحرب والدمار، أكثر من جُنوحها إلى السلام والهدوء، ولا تكترث بالعواقب. جميع تفاصيل المشهد الحالي الحاصل في قطاع غزّة مختلفة عن كل المشاهد السابقة منذ النكبة عام 1948، إذ لم تشهد المنطقة مثيلاً من أعداد المباني المدمّرة، والنازحين، وما زالت تشهده حتى كتابة هذه الكلمات من أطنان المتفجّرات التي تساقطت عليها، متفجّرات ذكية وغبية، صواريخ من جميع الأنواع والأشكال، قذائف من الجو والبرّ والبحر، مع استمراريةٍ في ذلك على مدار الساعات والأيام والشهور، جميع هذه العوامل والمعطيات تجعل مشهد إعادة إعمار قطاع غزّة شديد القتامة، ورغم أن الجوانب القاتمة فيه كثيرة ومتعدّدة، إلا أننا نقتصر على ذكر خمسة منها، وهي كالتالي.
الوجه الأول: وربما الأعقد والأشد قتامة، وهو وحده كاف لجعل عملية إعادة الإعمار مستحيلة أو ضرباً من الخيال، ويجعل جميع جهود إعادة الإعمار هباءً منثوراً إذا بقي قائماً، بل تهون جميع التحدّيات الأُخرى أمامه، ومفاده أنّ عملية إعادة الإعمار برمّتها يتحكّم بها الاحتلال الصهيوني، سيمنعها، سيُعيقها، سيعقّدها، وهذا الكلام ليس من فراغ، بل من واقع التجربة في عمليات إعادة الإعمار خلال حروبه السابقة ضد قطاع غزّة منذ 2008. وهذا التشديد هو سياسة يتعامل بها الاحتلال ليس فقط مع قضايا إعادة الإعمار، بل مع جميع تفاصيل الحياة داخل القطاع، فهو المتحكّم في جميع المعابر المحيطة بالقطاع، لا يدخل القطاع شيءٌ صغُر أو كبُر إلا بعلم الاحتلال وموافقته. وفي حالة العدوان القائم، وما نتَج عنه من دمار، ستكون السياسة نفسها أشد وأقسى، فهو لم يقم بكل هذا التدمير، حتى يسمح بإعادة إعمار سهلة وميسورة! فهذا يتناقض مع هدفه المتمثل بتحويل القطاع إلى منطقةٍ غير صالحة للحياة، على أمل أن يقود ذلك إلى الوصول إلى الهدف الأكبر، وهو ترحيل السكان وتهجيرهم إلى خارج الحدود.
إذَن، ستكون إعادة الإعمار إحدى وسائل ممارسة الاحتلال لمزيد من الضغط على الشعب الفلسطيني داخل القطاع في مرحلة ما بعد الحرب. ولا تصدّق، أيها القارئ، غيرَ ذلك، ولا يغرّنك أي نوع من الاتفاقات والمعاهدات والضمانات، فدولة الاحتلال لا تهتم، ولا تلتزم، هكذا بكل بساطة. للاحتلال في قضية إعادة الإعمار الخاصة بالقطاع ذاكرة مريرة، فجميع محاولات إعادة الإعمار السابقة على مدار ما يقارب عقدين، كانت دائماً تصطدم بعوائقه المتمثلة بالحصار الخانق، وعدم القدرة على اختراق قيود الاحتلال الذي يُمسك المعابر بقبضة من حديد، وبما أن الحالة هذه المرّة من ناحية التعنت الصهيوني، والتصميم على إتلاف مظاهر الحياة في القطاع، أضعاف ما كانت عليه في السابق، فالخلاصة أن عملية إعادة الإعمار هذه المرّة، ستكون أعقد وأصعب بأضعاف ما كانت عليه كذلك، ولئن استطاعت حركة حماس، أحياناً، الالتفاف على الحصار الإسرائيلي في هذه القضية من خلال الأنفاق التي كانت موجودة على الحدود المصرية مع القطاع من جهة الجنوب، وتمكّنت من خلالها من تهريب كل ما يلزم القطاع من المواد، إلا أنّ هذا الخيار في هذه المرحلة ليس مطروحاً، حيث لا أنفاق تُذكر منذ سنوات طويلة.
الوجه الثاني: يمكن تسميته “ثلاثة في واحد”، والتحدّيات الثلاثة هي حجم الدمار الهائل، حجم التمويل اللازم، واحتمالية تنازُع المصالح، والجمعُ بينها منطقي لأنها متلازمة، فالدمار يحتاج تمويلاً، والتمويل يحتاج مموّلين. وليس الحديث هنا عن دمار هائل من باب المبالغة، بل هو مشهد حقيقي أحالَ قطاع غزّة من ربوة خضراء، إنْ صحَّت التسمية، إلى صحراء جرداء، لا معالم للحياة فيها، بل هي أرض للموت كما وصفها المسؤول في الأمم المتحدة مارتن غريفيث، وهي مقبرة كبيرة بعد الحرب، كما كانت سجناً كبيراً قبلها. إذا كنا نتكلّم عن 1.9 مليار دولار تكلفة التصعيد الذي حصل عام 2006 بُعيد خطف الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، فقد داهمَ القطاعَ عُدوانُ العام 2008 الذي احتاج خمسة مليارات دولار، تبرّع بها المانحون بعد مؤتمر شرم الشيخ في ذلك الحين لإعادة الإعمار، وما كانت عملية إعادة الإعمار منذ 2006 قد اكتملتْ بعد، بسبب الحصار الصهيوني على القطاع، وإذا تجاوزنا بقية الحروب اللاحقة في الأعوام 2012، 2014، 2021، وصولاً إلى العُدوان الحالي، وحسب التقديرات التي صدرَت حتى كتابة هذه الورقة، دمّرت القنابل الصهيونية ما يقارب 70٪ من مساكن القطاع جزئياً أو كلياً، كما شملت عملية التدمير جميع أنواع المرافق من مستشفيات، ومدارس، وجامعات، وشوارع، ومقار حكومية، ومراكز صحية، وبُنية تحتية، ومعالم تاريخية، وأراضٍ زراعية، وليست مبالغة القول إنه لم يبق شيء في غزّة لم يصل إليه الدمار، لذلك تفيد بعضُ التقديرات، حتى تاريخ 17/1/ 2024، بأن تكلفة إعادة إعمار الوحدات السكنية فقط تتخطى 15 مليار دولار، ناهيك عن بقية المناحي الأُخرى كالبنية التحتية والجامعات والمستشفيات وغيرها الكثير، مع العلم أن تقديرات تكلفة إعادة الإعمار وصلت إلى ما يقارب 50 مليار دولار، وسيستمرّ هذا الرقم بالزيادة، لأن العُدوان والتدمير مستمرّان، وسوف تكون هذه الأرقام موضعاً لتنازع المصالح بين الطامعين في قطعة كبيرة أو صغيرة من كعكة إعادة الإعمار، وأول الطامعين، يأتي الاحتلال الصهيوني، الذي سينتفع من جميع مجريات هذه العملية وبأكثر من وجهٍ لا يتّسع المجال لتفصيلها، وتتطلع الدول والشركات والأفراد ورجال الأعمال الصغار والكبار والمقاولون والتجار إلى ذلك، كلهم سيدخلون في نَفَقٍ ونِفاق من أجل الحصول على نصيب من الصفقة الكبيرة، وهناك احتمال أن يُطيل هذا التنازع من عملية إعادة الإعمار أو يعقّدها. يمكن اختصار هذا الوجه القاتم باختصار أن تكلفة إعادة إعمار قطاع غزة هذه المرّة هي تكلفة إعادة إعماره نتيجة ستّ حروب سابقة شُنَّت عليه، وليست حرباً واحدة.
الوجه الثالث: لا يقلّ صعوبة عمّا قبله، وهو أنّ إعادة الإعمار لن تشمل إعادة الذكريات التي سُحقَت تحت جنازير دبّابات الاحتلال، ولا إرجاع الصور والقصص التي رُويت في البيوت، والمدارس، والمجالس، ولن تشمل إعادة الإعمار إعادة الحياة إلى عشرات آلاف الشهداء، ولا العلاج الحقيقي لعشرات آلاف الجرحى والمصابين، كما أنها لن تعالج الجروح الغائرة لمن سيبقى بعد الحرب ممن فقد العشرات من أهله بين ليلةٍ وضحاها، فقد مُسحَت عائلاتٌ كاملة من السجل المدني، ويدور الحديث عن آلاف الأطفال الصغار الذين فقدوا أهلهم ولا مُعيل لهم، وأصبح الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، ما بين يتيم، أو أرملة، أو جريح، أو شهيد، أو مُشرّد بالنزوح والتهجير. لن تشتمل عملية إعادة الإعمار على جبْر الضرر الأليم لمن فقد أطرافه في الإصابة، أو تشوّه جسده بالحروق، أو تسبّبت له الإصابات بآلامٍ مزمنة، وأصبح على يقينٍ أنه سيقضي حياته مرافقاً لذلك الألم. ومن نافلة القول إن وقعَ هذه النوعية من الإصابات يكون أصعب على نفوس الفتيات والنساء، منه عند الشباب والرجال، وبالتالي يتولّد هناك خوف، وهواجس اجتماعية، ونظرة إلى الذات، وهروب من الواقع، وفرار من المستقبل، وكل هذه الحيثيات لن تشملها إعادة الإعمار.
الوجه الرابع: احتمال نشوب الخلافات الداخلية بين سكّان القطاع. ويشهد كاتب هذه الكلمات على عشرات القصص في الحروب السابقة، قصصٌ تخللت عملية إعادة الإعمار، أو التعويض كما كانت تُسمّى، كانت تتمثّل في خلافاتٍ مع الجهة التي كانت تدفع التعويض، سواءً كانت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) أو غيرها، فإنّ موظفيها هم من الغزّيين في النهاية، وهم الذين يتعاملون مع أصحاب البيوت المدمَّرة الذين ينتظرون التعويض، ولم يحصل في مرّة أنْ كان التعويض مساوياً للخسارة، دائماً كان أقلّ، وهذا يفتح الباب للخلاف بين الأطراف.
هناك نوعٌ آخر من الخلافات ينشأ بين الأهالي الذين يعيشون في بيوتٍ مشتركة، نابعة من أسئلة مثل مَن سيستلم التعويض؟ ومَن ستتم المعاملات باسمه؟ وربما يأخُذ أحدُهم التعويض ويتنكّر لبقية الشركاء فينشأ النزاع، لكن في الأحداث الحالية، من المتوقع ظهور مشكلات جديدة تتعلق بحدود البيوت المدمّرة، التي اختفت معالمها تماماً، ولم يعد بالإمكان التعرّف على الحدود الفاصلة بين كل بيت وآخَر، وأهل غزّة معروفون بالتشدّد في مثل هذه الأمور، حتى إنّه كانت، في بعض الأحيان، تتعطّل عمليات بناء كاملة بانتظار الانتهاء من الخلاف على نصف متر، أو 30 سنتيمترا بين حدود بيتٍ وآخَر، وربما تمتدّ الخلافات بين الأهالي وجهات الحُكم والتخطيط المعماري والحضري في البلد أياً كانت تلك الجهات، لأن بعض الأهالي في الحروب السابقة لم يستطيعوا انتظار الحصول على التعويض، أو إعادة البناء من الجهات الدولية، فيجتهدون بإثبات الحالة الخاصة بهم حتى يحفظوا حقّهم في التعويض، ثم يبادرون في البناء بأنفسهم، لأنهم يعرفون أن انتظار إعادة الإعمار أو الحصول على التعويض سيأخذ وقتاً طويلاً لا ينبغي معه الانتظار في وجود أولويات الستر والمأوى واستمرار الحياة، وهؤلاء الذين سيبنون بأنفسهم، سيحصل أنْ يقتطعوا شيئاً من حدود الشارع مثلاً رغبة في التوسع، أو تتجاوز حدود بيتهم الجديد الخطوطَ الفاصلة بينهم وبين الأراضي الحكومية. وبالتأكيد، سوف تأتي لحظة وتأتي الجهات الرسمية لتحاسب مرتكبي هذه التجاوزات، وهو باب ثالث للخلاف والنزاع.
الوجه الخامس: الخوف المتجدّد من الحرب وتكرار الدمار، وهو واقعٌ لا يمكن إنكاره في حالة العدوّ الصهيوني، فلن تتضمّن إعادة الإعمار وعداً للناس أكيداً بالأمان، ولا بمستقبل قريب آمن، ولا بعيد مضمون، فالحالة هنا استثناء من بين جميع الحالات، لأننا أمام احتلالٍ استعماري استيطاني إحلاليّ، متجبّر، متوحّش، عنصري، والأدهى من ذلك كله، أنه مدعومٌ بأسوأ موزّع للحريات والديمقراطيات في العالم، الولايات المتحدة التي توفر له دائماً المخرج الآمن مهما فعل، وتترك الناس المظلومين المسحوقين يتدبّرون أمرهم مع مآسيهم. ربما يدفع هذا الخوف من المستقبل الناس إلى حالة من اليأس المشوب بعدم الرغبة في البناء من جديد، وسوف يطرق سؤالٌ آذان الناس جميعاً؟ لماذا نبني ما قد يهدمه الاحتلال بعد قليل؟ فأمْرُ إعادة الإعمار كما هو معروف يأخذ وقتاً طويلاً وجهداً شاقّاً، والمسألة هذه المرّة لا تتعلق فقط بإقامة البناء الحجري، لأنه مع اتساع حجم الدمار، سيكون الحصول على الأثاث، والأجهزة الكهربائية المنزلية، واللوازم المنزلية، ومواد البنية التحتية للمنازل كالأدوات الصحية والدهان والبلاط وكهرباء الإضاءة كلها تحدّيات قائمة في ظل امتداد الهجمة الصهيونية التي دمّرَت جميع المحال التجارية والأسواق والمعارض التي كانت تتكفل بتوفير هذه اللوازم على مستوى البلد. قد يولّد شعور الناس باستحالة الحصول على هذه الأمور تحت وطأة الحصار عندهم التفكير ببدائل تكون أيسر من إعادة إعمار متكاملة الأركان، مثل البقاء في الخيام نوعاً من الاحتجاج، ولكن قد يُردّ على هذا الوجه تحديداً بأنّ إرادة الناس ستكون أقوى، والرغبة في مقاومة محاولات العدو الصهيوني حرمانهم من الحياة ستكون الدافع للبدء من جديد، وأنّ الرغبة في الصمود، وعناد المحتل كفيلة بأن تحفّز الناس للإقبال على الحياة، في مقابل دفع العدوّ لهم على مدار خمسة أشهر لتمني الموت.
ختاماً، هذه وجوهٌ خمسةٌ قاتمة تعتري عملية إعادة إعمار قطاع غزّة، وهي على سبيل المثال، قد تكون هناك جوانب أكثر أو أقل قتامة. وفي المجمل، لن تكون عملية إعادة إعمار القطاع سهلة بأي شكل، إلا إذا افترضنا غياب الاحتلال عن المشهد، فهو أصل كل مشكلة، وأساس كل كارثة.