في ظل التحولات الإقليمية والتحديات الأمنية التي تواجه منطقة الساحل الإفريقي، تأتي زيارة رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، إلى موريتانيا كحدث مفصلي يُبرز عمق العلاقات التاريخية والاستراتيجية بين البلدين. تشكل هذه الزيارة، الأولى من نوعها منذ عقود، فرصة لتعزيز التعاون الثنائي على مختلف الأصعدة السياسية، الاقتصادية، والثقافية، مع التأكيد على الالتزام المشترك بمواجهة التحديات الأمنية والتنموية في المنطقة. ومن خلال هذه الخطوة، تسعى الجزائر وموريتانيا إلى تعميق شراكتهما الاستراتيجية، بما يخدم استقرار وازدهار الشعبين الشقيقين ويدعم الجهود الإقليمية لتحقيق التكامل والتنمية المستدامة.
أجرى رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، محادثات على انفراد مع رئيس الجمهورية الإسلامية الموريتانية، بالقاعة الشرفية لمطار نواكشوط الدولي، وقبل ذلك، كان الرئيس تبون، قد حلّ مساء أمس الإثنين، بالعاصمة الموريتانية نواكشوط للمشاركة في المؤتمر القاري حول التعليم والشباب وقابلية التوظيف الذي تحتضنه الجمهورية الإسلامية الموريتانية، تحت شعار: “تعليم وتأهيل شبابنا من أجل إفريقيا مزدهرة ومتكاملة وديناميكية”. وحسب بيان رئاسة الجمهورية، فقد كان في استقبال الرئيس تبون بمطار نواكشوط الدولي، نظيره الموريتاني، محمد ولد الشيخ الغزواني.
وتعتبر هذه الزيارة الأولى للرئيس تبون إلى الجارة موريتانيا، منذ وصوله إلى سدة الحكم عام 2019، وفي المقابل، كان الرئيس الموريتاني، محمد ولد الشيخ الغزواني، قد زار الجزائر خمس مرات منذ عام 2019، من بينها زيارة دولة، كان آخرها مشاركته في احتفالات عيد الثورة الجزائرية بداية الشهر الماضي، كما شارك في منتدى الغاز المنعقد في الجزائر شهر مارس الماضي.
وكانت آخر زيارة لرئيس جزائري لموريتانيا سنة 1987، حين زار الرئيس الراحل، الشاذلي بن جديد، مدينة نواذيبو الموريتانية على شاطئ المحيط الأطلسي لتدشين مصفاة نفط بها، وذلك في عهد الرئيس الموريتاني الأسبق معاوية ولد الطايع.
وتعكس هذه الزيارة عمق الثقة والعلاقات السياسية بين البلدين، وتعد خطوة مهمة نحو تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري، خاصة في ظل افتتاح معبر بري وتجاري بينهما، والشروع في تنفيذ مشروع طريق استراتيجي يربط البلدين، بالإضافة إلى إنشاء منطقة تبادل حر على الحدود المشتركة.
كما تعكس الزيارة التزام الجزائر بتعزيز علاقاتها مع موريتانيا بما يتماشى مع استراتيجيتها لبناء شراكات سياسية واقتصادية مثمرة مع دول الجوار. وتكتسي زيارة الرئيس تبون طابعا إقليميا مهما، نظرا لموقع البلدين ودورهما في إفريقيا ومنطقة الساحل بشكل الخاص التي تعتبر من بين المناطق الإفريقية التي تتصارع فيها الأجندات الدولية.
وسبقت زيارة تبون زيارة أداها قائد أركان الجيش الوطني الشعبي، الفريق أول السعيد شنقريحة، لنواكشوط في أكتوبر الماضي، أعلن في ختامها أن البلدين يخططان لتسيير دوريات مشتركة على طول الحدود بينهما.
وأكد البلدان خلال الزيارة على عزمهما “النهوض بمستوى التعاون العسكري الثنائي وإكسابه آفاقا جديدة، خاصة فيما يتعلق بشراكة البلدين في مجال مكافحة التطرف العنيف والجريمة المنظمة التي تشهدها منطقة الساحل”.
شراكة اقتصادية في أوج ازدهارها
على الصعيد الاقتصادي، شهدت العلاقات بين الجزائر وموريتانيا تطورًا ملحوظًا في الأعوام الأخيرة، خاصة في مجالات التجارة والاستثمار. فقد تم فتح العديد من المشاريع المشتركة التي تعزز التكامل الاقتصادي بين البلدين، مثل المعابر البرية التجارية التي تسهم في تسهيل حركة السلع والخدمات. بالإضافة إلى ذلك، تم الشروع في تنفيذ مشاريع بنية تحتية حيوية، مثل الطرق السريعة التي تربط بين الجزائر وموريتانيا، والتي تعزز من الروابط التجارية والنقل بين البلدين.
وقد اهتم البلدان بتطوير منطقة التبادل الحر على الحدود البرية بينهما، وهو ما يمثل خطوة استراتيجية نحو تعزيز التبادل التجاري وتقليل الحواجز الجمركية والبيروقراطية التي قد تعيق تدفق السلع. كما سعى البلدان إلى توسيع التعاون في مجالات الطاقة والزراعة، حيث أبدت الجزائر رغبتها في الاستثمار في مشاريع الطاقة المتجددة في موريتانيا.
وشهدت العلاقات بين الجزائر وموريتانيا خلال العقد الأخير تطورًا ملحوظًا على الصعيدين السياسي والاقتصادي، في ظل توافقات استراتيجية بين البلدين على مختلف الأصعدة. وتعكس هذه العلاقة تزايد التعاون بين البلدين في مواجهة التحديات الأمنية والتنموية في المنطقة، بالإضافة إلى تعزيز الروابط الثقافية والتاريخية التي تجمع الشعبين.
وتطورت العلاقات الاقتصادية الموريتانية الجزائرية خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة بشكل كبير، حيث باتت الجزائر الشريك الإفريقي الأول لموريتانيا. ووفق أرقام رسمية فإن حجم التبادل التجاري بين البلدين بلغ 414 مليون دولار في 2023، مقارنة بـ 297 مليون دولار في 2022.
إقرأ أيضا : الدبلوماسية التونسية: ضرورة تجديد المقاربة والأداء
ومن بين المشاريع الهامة بين البلدين، افتتاح فرع للبنك الجزائري في موريتانيا، وتدشين أول معبر حدودي يربط البلدين. وفي العام الماضي أعطى رئيسا البلدين إشارة بدء العمل في طريق برية تربط بين مدينة الزويرات الموريتانية وتيندوف الجزائرية، ويبلغ طولها أكثر من 700 كلم. وترتبط الجارتان بحدود برية بطول 460 كلم، وتنشط على حدود البلدين العديد من التنظيمات المسلحة، كما يرتبط البلدان بحدود مع بلدان الساحل الإفريقي التي تعاني أزمات واضطرابات أمنية.
مفتاح الاستقرار في الساحل والصحراء
ويخشى البلدان أن تتسبب الأزمات في منطقة الساحل الإفريقي بتدفق المزيد من اللاجئين، حيث أعلن وزير الدفاع الموريتاني حننه ولد سيدي، في تصريحات صحفية مؤخرا أن تدفق المهاجرين غير النظاميين واللاجئين إلى بلاده وصل “عتبة حرجة”.
وتستضيف موريتانيا حاليا 400 ألف شاب مهاجر من بلدان الساحل الإفريقي وحدها، وهو ما يمثل 10 بالمئة من سكان موريتانيا البالغ نحو 5 ملايين نسمة، وفق معطيات رسمية موريتانية. وتتمتع الجزائر وموريتانيا بتاريخ طويل من التعاون الثنائي الذي ينسجم مع مصالحهما المشتركة في تعزيز الاستقرار الإقليمي، خصوصًا في منطقة الساحل والصحراء.
في هذا السياق، دعمت الجزائر موريتانيا في مكافحة التهديدات الإرهابية في منطقة الساحل، حيث تم التنسيق بين القوات المسلحة للبلدين في العديد من العمليات الأمنية، حيث كان لهذا التعاون الأمني بين البلدين دور كبير في الحد من انتشار الجماعات المسلحة في المنطقة، وهو ما يعكس قوة الشراكة الاستراتيجية بين الجزائر ونواكشوط.
وتجسد العلاقات الثقافية بين الجزائر وموريتانيا أيضًا بعدًا هامًا في هذه الشراكة، حيث يشترك البلدان في تاريخ طويل من الروابط الثقافية والدينية، فضلاً عن تعزيز التعليم والتدريب الفني. وشهدت الأعوام الأخيرة تعاونًا مستمرًا في مجالات التعليم العالي والتبادل الثقافي، حيث استفاد الطلاب الموريتانيون من المنح الدراسية في الجامعات الجزائرية، في حين تبادلت المؤسسات الثقافية والفنية بين البلدين العديد من الفعاليات الثقافية والفنية التي تعزز العلاقات الشعبية.
نقلا عن الأيام الجزائرية