ملف الذاكرة هذا، هو أحد أهم الموضوعات التي ما زالت تحول دون تطوير العلاقات الجزائرية-الفرنسية، فمن المعلوم أنّ الجزائر تصرّ على اعتراف فرنسا بالمجازر التي ارتكبتها أثناء الاحتلال الذي دام قرنًا وثلث القرن من الزمان، وترتبط بهذا الاعتراف مجموعة من الملفّات الرئيسية أهمها ملف استعادة الأرشيف التاريخي والوثائق الرسمية التي توًرخ لهذه المرحلة، وملف المفقودين خلال حرب التحرير، وبالطبع ملف التعويضات عن التجارب النووية التي أجرتها فرنسا في الجزائر وكانت لها آثارها الكارثية على كل المستويات.
وعلى الرغم من التقدّم الذي تحقّق في موضوع ملف الذاكرة بتشكيل لجنة متخصّصة لهذا الغرض وتسليم فرنسا ٢٤ جمجمة لمجاهدي حرب التحرير إلى الجزائر، إلا أنّ الملف أبعد كثيرًا من أن يُطوى لسببين أساسيين.
السبب الأول أنه لا توجد إرادة فرنسية حقيقية للاعتراف بالمجازر بالنظر إلى التبعات المختلفة التي تترتّب على هذا الاعتراف، والسبب الثاني وهو مرتبط بسابقه ويتمثّل في ضغوط أقصى اليمين الصاعد في فرنسا والذي يعتزّ بالخبرة الاستعمارية أيّما اعتزاز.
وأخشى القول إنه ليس اليمين الفرنسي وحده الذي يمتلك مشاعر الاعتزاز هذه، فلقد روى لي أحد كبار الساسة المخضرمين المصريين الذين عاصروا حرب التحرير وشاركوا بقوة في أحداث تلك المرحلة، أنه في حديث جانبي جرى مؤخرًا مع وزير خارجية فرنسي سابق ذكر له الوزير بلهجة عتاب كيف أنّ مصر لعبَت دورًا في تسليح المستعمرات الفرنسية!!، وكأنه بعد كل هذه السنين الطويلة لا زال في نفوس قطاع من الساسة الفرنسيين “شيء من حتّى” على حدّ قول سيبويه.
إذن نحن إزاء ملف للذاكرة التاريخية تحاول كل من الجزائر وفرنسا التعامل معه بشكلٍ أو بآخر والتطلّع للمستقبل والاشتغال على تطوير علاقات البلدين اللذين تجمعهما وشائج الجغرافيا والثقافة ودرجة عالية من التداخل الديموجرافي. لكني شخصيًا أعجب من أنه بينما يجري العمل على هذا النحو فإنّ ثمة ملفًا آخر تتكّدس أوراقه وتتراكم يومًا بعد يوم. ولن أتحدّث هنا عن استضافة فرنسا لقادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ التي أذاقت الجزائر الأمرّين خلال ما يُعرَف بالعشرية السوداء في تسعينيات القرن الماضي، فهذا ملف ساكن ولا جديد فيه منذ انتصرَت الجزائر في حربها على الإرهاب. لكني سأتحدّث عن فَتْح فرنسا أبوابها لعناصر الحركة الانفصالية (Mac) التي تهدف إلى فصل إقليم القبائل ذي الأغلبية الأمازيغية والواقع شرق الجزائر عن كيان الدولة الوطنية الجزائرية. رويدًا رويدًا أخذَت حركة الـ”ماك” تتطوّر وتنتقل من إنشاء حكومة في المنفى إلى وضع دستور لها ونشيد، ثم إلى استصدار بطاقات هوية لسكان إقليم القبائل، وأخيرًا إلى إعلان فرحات مهنّي زعيم الحركة عن إنشاء “دولة القبائل” من نيويورك يوم ٢٠ أبريل/نيسان الماضي وأمام جمهور عريض من الأمازيغ المغتربين في الولايات المتحدة.
بالطبع كل دولة لها أن تمنح مَن تشاء من مواطني الدول الأخرى حق اللجوء السياسي، وهو ما ينطبق على فرحات مهنّي ومجموعته، لكن ليس من حقها أن تسمح لمَن تمنحهم هذا الحق بالعمل من داخل أراضيها ضد الأمن القومي لدولة أخرى، خصوصًا إذا كانت تسعى لفتح صفحة جديدة مع هذه الدولة وبناء علاقات ثنائية قوية.
ومن المفهوم أنّ دولة القبائل المزعومة لم تلقَ اعترافًا من أي دولة رغم محاولات زعيم الـ”ماك” التواصل مع عدد من زعماء العالم بهذا الخصوص، لكن سلبية هذه الخطوة تتجلّى في نقطتين، النقطة الأولى ذات طبيعة رمزية بالتشكيك في التكامل الوطني الجزائري، والنقطة الثانية تتعلّق بارتدادات هذا الإعلان على أمازيغ إقليم القبائل داخل الجزائر واحتمالات تهديد الاستقرار السياسي في تلك المنطقة الجاهزة للاضطراب.
تحتاج فرنسا إذن أن تحدّد ماذا تريد من الجزائر على وجه التحديد. هل تريد علاقات سوية قائمة على الاحترام المتبادل ما يقتضي منها الحفاظ على الوحدة الترابية للجزائر والاعتراف لها بأخطائها التاريخية خلال الفترة الاستعمارية لإزالة العقبة الكؤود أمام تطوير هذه العلاقات؟، أم أنها تريد علاقات مراوغة وملغومة بمحاولات التفكيك وتغذية النزعات الانفصالية وبالتعامل مع الجزائر بالذهنية الاستعمارية القديمة التي كانت تعتبر أنّ الجزائر هي فرنسا (L’algérie c’est la Françe)؟، ومن دون إجابة واضحة على هذا السؤال ستظلّ العلاقات الجزائرية-الفرنسية تدور في حلقة مفرغة.