أفريقيا

الجزائر وزمن التبرعات

لا يختلف اثنان أن الجزائر لم تتخلف عن الوقوف مع أفريقيا ومع دول الجوار، لكن بات يتوجب عليها أن تدرك أن مفردات التبرع والتحرر والاستعمار وهيمنة الغرب وموقع أفريقيا في مجلس الأمن لم تعد تقنع دول القارة نفسها.

عندما سئل رئيس الوزراء المسجون أحمد أويحيى عن “عوائد” قرار مسح الجزائر لديون عدد من الدول الأفريقية، رد بأن بلاده لا تمارس دبلوماسية مكبّر الصوت، وهو رد يترجم توجها تبنته الدولة منذ عقود في التعاطي مع المسألة الأفريقية. ففيما كان الآخرون ينفقون على القارة السمراء من أجل مصالحهم ونفوذهم، ظلت الجزائر تتمسك بخطاب رائد حركات التحرر الأفريقية، إلى أن جاءتها المفاجأة من أقرب دول الجوار لتعلن أن زمن التبرعات قد ولّى، والعبرة في الدفع بالمقابل.

آنذاك أعلن الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة مسح ديون عدد من الدول الأفريقية وحتى العربية، بمبلغ فاق المليار دولار، ولم يكن حينها ما يعيق العملية، فالآليات السياسية والتشريعية تتيح للرئيس ذلك دون العودة إلى أيّ مؤسسة من مؤسسات الدولة، والآن رصدت الجزائر أيضا مبلغ مليار دولار للمساهمة في التنمية والتكامل الأفريقي، لكن ذلك لم يجد نفعا على ما يبدو، ما دام هناك من يدفع أكثر، ولذلك أدار عقداء مالي ظهورهم للبلد الذي وقف إلى جانب مالي منذ تسعينات القرن الماضي.

في الجزائر هناك من ينتقد قرارات الإنفاق على القارة وعلى دول الجوار، بدعوى أن الأولوية للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الداخلية وللتنمية المحلية، لكن الآن فقط بدأ الناس يشعرون بمعاني العمق الإستراتيجي والخطر الإقليمي، فالأمن على 2400 كيلومتر من الحدود المشتركة مع دول الساحل، يبدأ من داخل المنطقة وليس من معالم الحدود.

الجزائر لم تتخلف عن الوقوف مع أفريقيا ومع دول الجوار، لكن بات يتوجب عليها أن تدرك أن مفردات التبرع والتحرر والاستعمار وهيمنة الغرب وموقع أفريقيا في مجلس الأمن لم تعد تقنع دول القارة نفسها لكن إذا كانت الجزائر في سنوات سابقة لا تحبذ دبلوماسية مكبّر الصوت، فإن الاستفهام يبقى قائما حول عائدات هكذا إنفاق في هذه المنطقة أو البلد المجاور، ما دام تهديد مصالح الجزائر ليس وليد اليوم، فقد تساءل البعض آنذاك، كيف نمسح ديونا ولا ننال حتى أصواتا أفريقية استفادت من القرار، في سباق تنظيم كأس أفريقيا للأمم العام 2017، والآن أيّ رجع تنتظره الجزائر من مبلغ مماثل تم رصده لأغراض مشابهة.

مكانة الجزائر في القارة وفي الساحل الصحراوي هي قدر لا يمكن زحزحته إلا إذا مسحت 2400 كيلومتر من الحدود المشتركة، وهذا معطي جيوإستراتيجي هام، يتطلب مراجعة الكثير من المفاهيم والأوراق في التعاطي مع الملفات الإقليمية، وأولها أن الخطاب يستوجب تعديلا جوهريا، فالمنافسة على المصالح والنفوذ، والمنافسون عيار ثقيل. القوى الكبرى من آسيا وأميركا وأوروبا كلها تبحث عن شراكة مع أفريقيا، وفي أغلفتهم مشروعات وليس تبرعات.

لا يختلف اثنان أن الجزائر لم تتخلف عن الوقوف مع أفريقيا ومع دول الجوار، لكن بات يتوجب عليها أن تدرك أن مفردات التبرع والتحرر والاستعمار وهيمنة الغرب وموقع أفريقيا في مجلس الأمن لم تعد تقنع دول القارة نفسها، ولعل قمة إيطاليا – أفريقيا التي أطلقت فيها روما مشروع “ماتي”، ورددت رئيسة الحكومة جورجيا ميلوني، بأن “الاستعمار في أفريقيا قد ولى”، يؤكد على أن المفاهيم تغيرت.

حتى الاستعمار تغير، صار ليّنا ناعما لا يحتاج إلى جيوش أو حروب أو عنف، فالصين توصف بـ”مغرق” أفريقيا، لأنها لا تتردد في الإقراض والإنفاق لدرجة إغراق شركائها في الديون المستحيلة، وعلى نحوها يسير الأميركيون والروس واليابانيون والأوروبيون والأتراك، وهذا نسق لا تقدر الجزائر على مجاراته، إلا إذا وظّفت أوراقها توظيفا جيدا، وأبرزها أن تكون جزءا من أفريقيا وليس شريكا لها، وأن تستفيد وتفيد، فللتبرع دواع إنسانية وللمصالح مقتضيات براغماتية.

حسابيا لا يمكن للديون الممسوحة ولا لموازنة مديرية التعاون الخارجي أن تحقق أهدافا كتلك التي تحققها مليارات الصين واليابان والولايات المتحدة وأوروبا وتركيا.. وغيرها، لأن قواعد اللعبة المالية والاقتصادية غير متكافئة، ولهؤلاء القوة والقدرة على التغلغل من منافذ اليمين والشمال، لكن يبقى المنفذ الجزائري واحدا منها ومن مساراتها، ولذلك فهي تملك ورقة هامة ستكون عائداتها وفيرة متى وظفت بالشكل اللازم.

صابر بليدي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى