إيران

الثورة الإيرانية وغياب أنسنة المجتمع

فشلت كل الشعارات في إيران في تحقيق معادلة حقيقية على ذات الأرض، ولم تجلب سوى الحصار الذي يدفع ثمنه الإنسان المدني الذي بقي طوال العمر الماضي رهينة فكرة وهْم الانتصار على أمريكا والغرب

أربعة عقود ونصف من عمر الثورة الإيرانية ولم تستطع خلالها أنسنة الواقع المعيشي لمواطنيها، والذين بقي تنقلهم من أزمة إلى أزمة، ناهيك عن جلب البلاء للملايين من الشعوب في المنطقة، في معادلة يتجاوز فيها المشهد الإيراني باعتباره مشكلة في دولة مجاورة أو حتى أزمة إقليمية خارج الجغرافيا، ليبدو مشكلة داخلية موجودة في أربع عواصم عربية إضافة إلى قطاع غزة، حيث تتوفر الطلقة والرصاصة ويختفي رغيف الخبز، والذي هو أيضاً مشكلة حادة يعيشها قطاع واسع من الشعب الإيراني.

الثورة الإيرانية المشحونة بالأيديولوجيا سارت على شاكلة الدول التي تعيش المشهد الإمبراطوري، أو تلك التي تعيش هاجس الخطر الوجودي، حيث تذهب تلك الكيانات نحو استنزاف مخزونها وناتجها القومي نحو مزيد من استحضار عوامل القوة والسلاح، والذي غالباً لا يجتمع كثرته مع رغيف الخبز، فقد انهار الاتحاد السوفيتي تحت وطأة سباق التسلح، وأكلت حدة الفقر كوريا الشمالية أمام هواجس الثورة، وغرقت شعوب دول الانقلابات العسكرية تحت ذات المصاب. فمسألة الأنسنة للمجتمع، تتطلب من النخب الحاكمة الذهاب إلى عصر الدولة، بمتطلباتها الإنسانية المعاصرة، وهي المتطلبات المعيشية التي ترتكز على تأمين الجوانب الأساسية من التعليم والصحة والسير في طريق التنمية المستدامة بقصد تقدير قيمة الإنسان كهدف سامٍ، وهو ما يتنافى بالطبع مع الصورة في العواصم العربية المنكوبة، إضافة إلى غزة، والتي تم طمس أبسط الاحتياجات الإنسانية فيها تحت يافطات تحمل شعارات كبيرة فضفاضة عناوينها تحرير القدس، وتفاصيلها على بقايا الأجساد المتناثرة.

غياب الأنسنة، هو مشهد ينتمي للقرون الوسطى، أو على شاكلة الحروب الظالمة التي تدفع فيها الشعوب ثمناً باهظاً، ما يذكرنا بالحرب الكونية السابقة، حينما كانت الطائرات ترمي بالجنود بالمظلات من دون أن تسأل عن عددهم، وكأنها ترمي كومة من البذار في حقول القمح. وهو العصر الذي لا يتوافق وما نحن فيه، فما يمكن أن تأخذه بالحرب، هناك طرق كثيرة لاسترداده عبر المواثيق الدولية، التي لم يصل إليها العالم إلا بعد نزف طويل. لذلك، إن فلسفة تصفية الحسابات الداخلية هي واحدة من الإشكاليات التي أدخلتها إيران، حينما كان الماضي في ذاكرة القائمين على الثورة يشكل خطراً على المستقبل، ما يذكرنا بالثورة البلشفية، وعموم ملحقاتها، فمسألة الثورة لديهم كانت عملية محو للماضي بكل ما فيه بلغة جبرية تقوم على سير العجلة القسري، وهو منطق لا يوافق الحاضر البشري، والذي يطرح اليوم بدائل لتقليل خطر الإقصاء المدعوم بالقهر، نحو خيارات أكثر رحمة، كالسير نحو فتح بوابات التعليم، وبالتالي مخاطبة الأجيال الجديدة من خلال عرض الصورة الجديدة والمقارنة بشفافية، وهو ما ينتج عنه عملية تغيير اجتماعي فيها حضور الأنسنة بشكل لا يكون نزيفاً مستداماً ولا هالة من الرعب بحيث تصبح فيها البلاد طاردة للنخب المثقفة والمبدعين، وهو تاريخ يمتد من إيران الثورة، وله اليوم ذات الامتداد في العواصم العربية المنكوبة، حينما تحلم الأجيال بالهجرة بسبب الثقل الكبير على أجسادهم.

لكن، كيف تصبح إيران أزمة داخلية في غزة والعديد من البدان العربية؟
بالتأكيد هي مسألة يجيب عليها فكر الإسلام السياسي الذي جعل الثورة الإيرانية نموذجاً جوهرياً يريد من الشارع العربي الارتكاز عليه، وبعد الحضور للإسلام السياسي الذي صنعه الإعلام الشعبوي له، يدخل هذا النموذج في صندوق الانتخابات، ولكننا في النتائج، نستحضر مشاهد مأساوية، من “العشرية السوداء في الجزائر” إلى غزة، فمسألة صندوق الانتخابات لدى الشعوب هو فقط صندوق الانتخابات، ما يعنيه إن فشل التوافق على النتيجة يعني العودة إلى صندوق الانتخابات كما في كل الأمم المتحضرة، وبالتالي فمسألة صندوق الانتخابات لا تعني فتوى بإقصاء الآخر، ولا تعني تفويضاً بفتح الحروب الداخلية أو الخارجية، وهو السؤال الكبير الذي يرى فيه الإسلامويون أن الانتخابات مسألة بيعة والبيعة بمفهومهم تعني أن كل من لم يبايع فهو آثم، وهنا بالضبط يصبح الإقصاء للآخرين عملاً مشروعاً، وتصبح الهوية الانتخابية التي جرت هي بمثابة بيعة أبدية لا يُسمح فيها لبقية الأطراف بالخطاب السياسي أمام الأيديولوجيا الماحية للبقية، وبوضوح أكثر، هناك بيعتان للإسلامويين، البيعة الأولى والتي هي (البيعة الأعلى) وهي البيعة للمرشد، أو قائد الجماعة، ثم تأتي البيعة الثانية وهي البيعة للدولة أو السلطة والدستور، وهذا الذي يسقطونه أمام أول اختبار، حيث تصبح بيعة المرشد هي النافذة، ويسقط ما دونها، وهو الميراث المشترك الذي يجمع عموم جماعات الإسلام السياسي وعلى رأسها الإخوان، وبين نموذج الثورة الإيرانية من حيث ثنائية المرشد والدولة.

هنا بالضبط إشكالية الحوثيين في اليمن ومعضلة حزب الله في لبنان، وأيضاً نشاهد ذات المشهد في المشهد الفلسطيني في غزة، فالسنوات الطويلة من الحوارات بقيت بلا أفق.

لذلك إن فكرة جماعات الإسلام السياسي على اختلافها وتناقضاتها هي أصلاً ترتكز على استيعاب فكرة الثورة الإيرانية في المشهد الداخلي، حتى لو كانت بين هذه الجماعات خلافات في الجانب الأيديولوجي، غير أنها مستقرة ومتوافقة من حيث الصورة، وبالتالي يرسل الحوثي آلاف الأطفال إلى الحرب وفق ما وثقته المنظمات العالمية، تماشياً مع آلاف الأطفال الذين قاتلوا على الجبهة الإيرانية العراقية وفقاً للإعلام الإيراني ذاته، الذي يوثق أيضاً أن أول عملية انتحارية في الشرق الأوسط قام بها طفل إيراني بعمر 13 سنة في 30 أكتوبر 1980 في مدينة خرمشهر.

صحيح أن إيران فشلت في تصدير الثورة إلى المنطقة، غير أن جماعات الإسلام السياسي على اختلاف توجهاتها وعلى رأسهم الإخوان المسلمين، كل ما فعلوه أنهم حملوا الفكرة على ظهورهم وأدخلوها إلى العواصم المنكوبة، وأوصولها إلى بقعة صغيرة من الأرض اسمها غزة، يعيش بها 80 بالمئة من الناس تحت خط الفقر، كل ما يحتاجونه خطوات إنسانية تنقذهم مما هم فيه غير معادلة ” الانقسام والانتقام ” التي فرضت عليهم وكانت هي النقطة الفاصلة في المشهد.

فشلت كل الشعارات في إيران في تحقيق معادلة حقيقية على ذات الأرض، ولم تجلب سوى الحصار الذي يدفع ثمنه الإنسان المدني الذي بقي طوال العمر الماضي رهينة فكرة وهْم الانتصار على أمريكا والغرب، فالذهاب إلى وهم الإمبراطورية، أفقد المجتمع أبسط متممات الأنسنة، وجعل الانتفاضات تتكرر في المشهد الإيراني واحدة تلو غيرها، في الوقت الذي كان فيه الانفتاح الاقتصادي والسياسي لإيران لو حدث، لكانت إيران حالة من النهضة مختلفة تماماً.
تماماً، كما فشلت شعارات الإسلام السياسي في تحقيق أدنى المتطلبات في المجتمع، في مجمل العواصم التي تم استحضار فكرة الثورة الإيرانية بداخلها، مروراً بمأساة غزة التي كان يمكن تفاديها لولا استباق حماس لفكرة الحلول السياسية في السابع من أكتوبر 2023.

بالتالي ما هي المشكلة في التفاوض وطرح مبادرات عربية للحل السياسي للقضية الفلسطينية، وما الخطأ في طرح معادلة عربية برعاية أممية تحمي الفلسطينيين ما دام الطرف الفلسطيني هو الأضعف في المعادلة، بمقابل ذلك ما الذي فعلته الشعارات بعد أكثر من 30 سنة على دخولها إلى المنطقة، سوى استنزاف الشارع الفلسطيني واستغلاله، وربط مصيره بمصير جماعات لا تملك قرارها، ولا تعطي قيمة إنسانية لمن يخالفها أو حتى لمن يوافقها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى