بعد أكثر من عامين على بدء الحرب، لم تتمكن أوروبا حتى الآن من التغلب على ترددها وتخبطها في ما يتعلق بالمسار الذي يجب اتباعه لمنع روسيا من تحقيق انتصار صارخ على أوكرانيا. فلقد لعب الموقف الأوروبي، مدعوماً أساساً بالموقف الأميركي الحاسم، دوراً مركزياً في إحباط “نزهة النقاهة” كما ظنتها القيادة الروسية، ولا سيما الرئيس فلاديمير بوتين، صبيحة يوم الرابع والعشرين من شباط (فبراير) 2022 عندما أطلقت جحافلها المدرعة في اتجاه العاصمة الأوكرانية كييف.
فبفضل الولايات المتحدة وخلفها أوروبا، نجحت أوكرانيا في إفشال الهجوم الروسي على العاصمة، ثم في ما بعد استطاعت تحرير أجزاء واسعة من الأراضي التي احتلتها روسيا في الموجة الأولى من الهجوم. وقد حررت خصوصاً ثاني المدن الأوكرانية خاركيف التي تتعرض حالياً لهجوم روسي مضاد ومحاولة لمحاصرتها بهدف إسقاطها.
في المرحلة التي تلت إفشال الهجوم الروسي، قامت كييف بهجمات مضادة تمكنت خلالها من تحقيق انتصارات تكتيكية في مختلف الجبهات في الشرق. لكن بعد فشل الهجوم المضاد في الربيع الفائت تغيرت موازين الحرب، مع بدء موسكو إعادة تنظيم قواتها، ثم تلقيها مساعدة غير مرئية ثمينة من الصين.
ولعل العامل الذي مثل الخطر الأكبر على أوكرانيا تمثل في فشل إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن على مدى أشهر طويلة في تمرير قانون في مجلس النواب الأميركي يتضمن حزمة مساعدات عسكرية ومالية بلغت 61 مليار دولار أميركي. وتزامن الأمر مع تراجع حزمات الدعم الأوروبي، وخصوصاً من الدول الكبرى مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا، فضلاً عن عجز الاتحاد الأوروبي عن صوغ موقف واضح وموحد من مسألة مواصلة دعم أوكرانيا، وتمويل فاتورة حربها ووضع ضوابط على الدعم العسكري، بسبب مواقف دول من الاتحاد مثل هنغاريا (المجر) التي ميزت نفيها بعلاقات خاصة جداً بين رئيس حكومتها فيكتور أوربان والرئيس فلاديمير بوتين فأثّر الأمر كثيراً على قوة الدعم الأوروبي الممنوح لأوكرانيا.
في الأسابيع الأخيرة تراجعت القدرات الأوكرانية على أرض المعركة. ولم يفلح نجاح إدارة بايدن في تمرير حزمة المساعدات الأميركية الكبيرة أخيراً في مجلس النواب الأميركي في قلب الموقف السيئ على الأرض بالنسبة إلى الجيش الأوكراني. وزاد الخطر على مدينة خاركيف، في وقت بدأت الدول الأوروبية الكبرى التحقق من خطورة الموقف، ليس على أوكرانيا وحدها، بل على كامل الجبهة الشرقية لحلف شمال الأطلسي – الناتو الممتدة من فنلندا شمالاً إلى رومانيا وبلغاريا جنوباً. ولعل الخطر تحدد أكثر على جمهوريات البلطيق الثلاث (إستونيا، ليتوانيا، لاتفيا) وأيضاً على بولندا.
في هذا الإطار، ومع ميل ميزان القوى على الأرض لمصلحة القوات الروسية، واحتمال إحداث روسيا اختراقاً كبيراً في الجبهة الشرقية، قال الأمين العام لحلف “الناتو” ينس ستولتنبرغ خلال اجتماع لبرلمانيين من الدول الأعضاء في الحلف عقد قبل أسبوعين في العاصمة البلغارية صوفيا: “لقد حان الأوان لإعادة النظر في وجهة استخدام الأسلحة المقدمة إلى أوكرانيا ورفع الحظر عن استخدامها ضد أهداف داخل الأراضي الروسية”.
جاء هذا الموقف مع ارتفاع نسبة الهجمات الروسية ضد المنشآت والبنى التحتية المدنية في أوكرانيا. تلى ذلك الموقف إعلان بريطانيا أنها ستسمح لكييف باستخدام صواريخ “ستورم شادو” البعيدة المدى ضد أهداف داخل الأراضي الروسية. ويوم الثلثاء الماضي ذهب كل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتس خلال القمة الفرنسية – الألمانية التي عقدت في برلين إلى التلميح بأنهما يدرسان السماح للقوات الأوكرانية باستخدام الأسلحة الألمانية والفرنسية الممنوحة لها لضرب أهداف عسكرية داخل الأراضي الروسية.
شكلت هذه المواقف الأوروبية التي لم تجارها الولايات المتحدة وإيطاليا حتى الآن، نقطة تحول كبيرة في مسار الدعم الغربي لأوكرانيا تحت عنوان منع روسيا من تحقيق انتصار. ومع أن كلاً من باريس وبرلين حافظتا على شيء من الغموض في موقفهما، إلا أن مجرد طرح المسألة بهذا الشكل أوضح أن القرار اتخذ في السر. ومع أن الرئيس الروسي سبق أن هدد تارة بالسلاح النووي وطوراً باستهداف الأراضي البريطانية نفسها، غير أن الموقف الأوروبي بدا هذه المرة أقل تردداً من ذي قبل، خصوصاً أن تقدم القوات الروسية في مختلف جبهات القتال شرق أوكرانيا بات يشكل خطراً كبيراً، ليس على خاركيف فحسب بل على العاصمة كييف نفسها.
مع أن لهجة دول محور وسط أوروبا بدأت تتغير تجاه روسيا، فإن أوكرانيا تعاني مشكلة أساسية تتمثل في أن عدداً من أعضاء الاتحاد الأوروبي يرون أن الحل سيكون عبر تسوية تتنازل فيها كييف عن الأراضي التي تطالب بها موسكو، في حين أن دولاً أخرى، ولا سيما الجناح الشرقي من الاتحاد الأوروبي، ترى أن التنازل في أوكرانيا اليوم معناه التنازل غداً في جمهوريات البلطيق: رومانيا، بولندا وفنلندا. ومن هنا أهمية الموقف الأميركي اليوم. فالإدارة الأميركية تتجاذبها أزمات أخرى في العالم لا تقل أهمية عن حرب أوكرانيا. وحرب غزة خطيرة للغاية وتؤثر على مكانة الغرب عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً.
أمّا أزمة العلاقات الأميركية – الصينية، وتحديداً مصير جزيرة تايوان، فتمثل تحدياً كبيراً لنفوذ أميركا ومعه لنظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، استطراداً عالم ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي.
إنها مرحلة مفصلية بالنسبة إلى الغرب الذي واجه أكبر التحديات التي يمثلها تحالف الصين ـ روسيا – إيران – كوريا الشمالية، في وقت تتعاظم الهوة بين الغرب والجنوب العالمي. ولذلك فإن مصير أوكرانيا في الحرب الدائرة مع روسيا سيحدد مستقبل الغرب لعقود طويلة مقبلة.