للاحتجاجات الطلابية دور كبير في تغيير أحداث كبيرة في العالم، فقد اجتاحت التظاهرات الطلابية عبر الأزمان دولاً عدة من الفيليبين شرقاً وحتى تشيلي غرباً، لكن الأشهر بين التظاهرات الطلابية العالمية هي تلك التي جرت في الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا في ستينيات القرن الماضي. ولعل التاريخ سيذكر الاحتجاجات والاعتصامات والتظاهرات الطلابية التي تجتاح الجامعات الأميركية هذه الأيام تضامناً مع شعب غزة المنكوب وللمطالبة بوقف حرب الإبادة المستمرة في القطاع منذ أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
التظاهرات الطلابية الأميركية اليوم تعكس تحولاً في المزاج الأميركي العام تجاه إسرائيل “المدللة” بالذهنية الأميركية، إسرائيل التي لا يطاولها الانتقاد ولا توجه لها سهام التجريم. أذكر أننا كنا طلاباً في عقد الثمانينيات الماضية وكنا لا نقنع سوى قلة من المتعاطفين والمناصرين الأميركيين للقضية الفلسطينية التي كانت تجمعنا كطلبة عرب في ذلك الزمان. أما اليوم، فيتجمع طلبة أميركيون بالآلاف في ساحات الجامعات من شرق البلاد إلى غربها مساندة للحق الفلسطيني وتعاطفاً مع ما يجري للفلسطينيين من إجرام في حقهم.
تختلف تظاهرات القرن الماضي اختلافا كلياً عما يجري اليوم، إذ كانت تحركات فرنسا على سبيل المثال داخلية المطالب وطوباوية الشعارات، ضد الإمبريالية ومع الاشتراكية العالمية والشيوعية الأوروبية EUROCOMMUNISM. بدأت بمطالب طلابية في جامعة نانتير بباريس في مارس (آذار) عام 1968، وسرعان ما اجتاحت الجامعات بمساندة من الاتحاد الوطني للطلبة بفرنسا القوي التأثير والانتشار آنذاك، ثم التحق العمال بمساندة الطلاب وأعلنوا الإضرابات التي شلت البلاد، وتفاقمت الاحتجاجات، واستاءت الجماهير من قمع الشرطة الوحشي للطلاب، مما دفع الرئيس والرمز الفرنسي التاريخي شارل ديغول لحل البرلمان والدعوة إلى انتخابات جديدة، واستقال بعد ذلك بأشهر ليعتزل الحياة السياسية حتى وفاته بعدها بعام.
وإذا كان اليسار الفرنسي هو العمود الفقري للتظاهرات الفرنسية خلال الستينيات، فقد كانت حركات السلام المناهضة للحرب في فيتنام والهيبيز والبوهيمية هي الغالب في التحركات الأميركية خلال الستينيات الماضية، إلى جانب التنظيمات الطلابية التي بلغت قمة احتجاجاتها بتظاهرات جامعة كينت بولاية أوهايو حيث قتل أربعة طلاب في اصطدامات مع الشرطة عام 1970، والتهبت ساحات الجامعات وأغلقت المئات أبوابها درءاً لتفاقم الصدامات، واستمرت التظاهرات حتى انتهاء الحرب في فيتنام عام 1975.
مررت بالأمس على جامعة هارفارد العريقة بمدينة كامبريدج الأميركية أثناء زيارتي لها، فوجدت بواباتها مغلقة ولا يسمح بالدخول إلى حرمها إلا عبر بوابة معينة للطلبة الذين يحملون هوية الجامعة. كانت حجة الجامعة أن “مخربين” من الخارج وراء التجمهر والاعتصام في الساحة الرئيسة للجامعة. وهو كلام فنده طلبة محتجون قالوا إن الجامعة تخشى عودة الاعتصامات التي انفضت بعد تفاهمات مع الجامعة من ضمنها إعادة قيد 13 طالباً فصلتهم إدارتها لتنظيمهم الاعتصامات المؤيدة لغزة. تنصلت الجامعة من اتفاقها مع الطلبة بعد انتهاء العام الدراسي بحجة أن هؤلاء لم يحققوا الدرجات العلمية المطلوبة لمتابعة الدراسة والتخرج!.
فوارق وأزمان كثيرة تفصل بين التظاهرات الطلابية في الستينيات والاحتجاجات والاعتصامات هذه الأيام في الجامعات الأميركية. أهم هذه الفوارق هو في القدرة على انتشار الخبر والتحرر من الاحتكار الإعلامي الذي يمتلكه الصهاينة في الولايات المتحدة الأميركية وفي فرنسا بصورة كبيرة.
وبين هذه الفوارق أن ثمة جدلاً حاداً يدور في الأوساط الأكاديمية حول مبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان التي يؤمن ويبشر بها الغرب الأكاديمي والشعبي ويخالفها الغرب السياسي مخالفة صريحة وواضحة حين يتعلق الأمر بإسرائيل، وتتزامن الاحتجاجات الطلابية مع حملة مناهضة للصهيونية يشارك فيها بعض اليهود، حملة دفعت جمعية “قلم أميركا” PEN AMERICA، وهي أكبر تجمع للأدباء والكتاب الأميركيين، إلى حجب جائزتها السنوية لهذا العام بسبب الانتقادات التي تطاولها لعدم تضامنها مع القضية الفلسطينية وإدانة الصهيونية.