ترددت عبارة “الولايات المتحدة في المنطقة، لا أعداؤها يخشونها ولا حلفاؤها يثقون بها” على أكثر من لسان من على منابر إعلامية قريبة من الإمارات. كان مبعث القصة هو موضوع نشره موقع بوليتيكو الأميركي منتصف الشهر الجاري. أساس الموضوع هو أن دول المنطقة، وخاصة منها الإمارات، لم تعد تمنح الولايات المتحدة التسهيلات لشن ضربات انتقامية تستهدف الإيرانيين أو ميليشياتهم الحليفة.
حجب هذه التسهيلات كان أقدم من التصعيد الحالي بسبب حرب غزة. واشنطن، كما هو واضح، صارت أكثر من متذبذبة في مواقفها حيال التطورات في الإقليم. هذا التذبذب ولّد الشعور بالحيرة في نفوس قادة المنطقة، ما جعلهم يقررون عدم مسايرة الولايات المتحدة في مواقفها تجاه إيران وحلفائها.
لا نعرف من حرك موضوع بوليتيكو. الانطباع الأول هو أن الإدارة الأميركية هي التي تقف وراء إثارته. هذا أسلوب سياسي معتمد لجس النبض عندما لا تتلقى واشنطن ردا يتلاءم مع مواقفها. لكن كل الأطراف المعنية من مصلحتها إثارة الموضوع؛ دول الخليج تريد إثارته لتبلغ الإيرانيين بأنها ليست بصدد فتح جبهة عليهم كنتيجة للتصعيد في غزة، طهران تريد إثارته ليعلم الجميع بأنها قوية بما يكفي لجعل الآخرين يترددون في توفير تسهيلات -من قواعد جوية أو تحليق عبر الأجواء- للولايات المتحدة تساعدها على استهداف إيران.
أما الميليشيات الموالية لإيران فغايتها من إثارة الموضوع هي التذكير بأنها صارت قوة مهمة في المنطقة ينبغي للجميع أخذها في الاعتبار حين يتم اتخاذ قرار يتعلق بالمنطقة. حتى اللاعبون الأصغر في حلبة الصراع، يجدون أن من مصلحتهم أن تتم الإشارة إلى عدم توفيرهم التسهيلات لضرب الميليشيات، حتى وإن كانت الحلقة الأخيرة من هذه الضربات قد تمت بسبب استهداف قاعدة أميركية في الأردن أو أن الطائرات البريطانية لا بد أن تعبر المجال الجوي المصري في طريقها من قواعدها في قبرص نحو الأهداف في اليمن.
الغضب الخليجي من التذبذب الأميركي يقود إلى سياسة النأي بالنفس. لكن إذا كان ثمة شيء تعلمناه من العيش في الجوار الإيراني فهو أن لا شيء اسمه النأي بالنفس عن إيران.
“لا أعداؤها يخشونها ولا حلفاؤها يثقون بها” هي عبارة ليست وليدة الساعة، بل نتيجة تراكمات كثيرة وتناقضات كان الجميع يراها من دون التعليق عليها. إيران، المعني الأول بالضربات، تعلمت من درس العراق. كانت قناة الجزيرة تتباكى على حال العراق -بينما تنطلق الطائرات الأميركية من القواعد القطرية لتقصف بغداد- ما قبل الغزو والإطاحة بنظام صدام حسين، وأثناء الغزو.
أول ما تسمعه الآن من لسان قادة الحرس الثوري هو أن دول الخليج هي التي ستدفع الثمن. والإيرانيون، وعيًا منهم بأن الوعيد وحده لا يكفي، أرفقوا التهديدات بضربات قوية نسبت إلى الميليشيات في اليمن والعراق. استهداف المنشآت النفطية السعودية عام 2019 وقاعدة الظفرة الجوية في أبوظبي عام 2022 كان مندرجا في هذا السياق. هاتان الضربتان تحديدا كانتا مفاجأة لإيران أكثر من أي بلد آخر. ففي الحالتين، لم تتحرك الولايات المتحدة للرد.
كل الحديث عن حماية الحلفاء في المنطقة من الخطر الإيراني، لم يجد له أي تنفيذ على أرض الواقع. استكملت الولايات المتحدة مسلسل سلبيتها الذي بدأ مع الربيع العربي ومر بالاتفاق النووي مع إيران من دون الأخذ في الاعتبار القلق الخليجي، وصولا إلى تصريحات أقرب إلى التهريج أطلقها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عن ثمن حماية دول الخليج. ترك الأميركيون إيران تستكمل ما بدأته في المنطقة عندما انهار نظام صدام عام 2003، وصارت أبواب العراق مفتوحة لإيران.
مفارقات هذا الصعود الإيراني لا تلام عليها الولايات المتحدة فقط، بل دول المنطقة أيضا التي تركت العراق بيد الإيرانيين نتيجة التخوف من اتهامها بدعم الإرهاب السني. إيران تتوج الآن سيطرتها على العراق باستهداف أربيل، آخر منطقة عراقية متبقية خارج النفوذ الإيراني.
تحرك الأميركيون، في عهد الرئيس ترامب، بشكل اعتباطي لمواجهة الإيرانيين. انسحبوا من الاتفاق النووي من دون خطة بديلة، ووجهوا إلى طهران ضربة قاسية حين تمت تصفية قائد فيلق القدس قاسم سليماني ونائب قائد الحشد الشعبي العراقي أبومهدي المهندس بالقرب من مطار بغداد.
عندما وصل الرئيس جو بايدن إلى الرئاسة ابتدأ عهده بعداء واضح للسعودية وميل نحو إيران. سحبت ميليشيا الحوثي من قائمة الإرهاب، وأصبح محمد شياع السوداني، مرشح الإطار التنسيقي والميليشيات الولائية، رئيسا لوزراء العراق برضا وموافقة واشنطن. تُركت الميليشيات الموالية لإيران لتسيطر على أوجه الحياة في العراق وسوريا، بعد أن استكملت هيمنتها على لبنان واليمن. الولايات المتحدة، في أحسن الأحوال، كانت تقوم بدور المتفرج المهتم لا أكثر.
لكن ما غير الواقع كان حرب أوكرانيا أولا ثم حرب غزة. انحازت إيران تماما إلى الروس وصارت تزودهم بالمسيرات الرخيصة والصواريخ البالستية الدقيقة، ثم أوعزت إلى الحوثي باستهداف طرق الملاحة البحرية بحجة مضايقة الإسرائيليين وحلفائهم، وتركت لميليشيات الحشد الشعبي مهمة إزعاج القوات الأميركية في العراق وسوريا.
توقيت استهداف القوات الأميركية كان مناسبا جدا من وجهة النظر الإيرانية؛ فسماء المنطقة ملبدة بغيوم جرائم تدمير غزة على يد الجيش الإسرائيلي والتي ارتُكبت بحماية سياسية غربية. ولو لم تطل حرب غزة، كما يحدث الآن، لكانت إيران هي المنتصر الأكبر في هذه الحرب (كانت ولا تزال المنتصر الأكبر من الغزو الأميركي للعراق). الآن تريد الولايات المتحدة أن تعيد ترتيب أولوياتها باستهداف الحوثي والحشد الشعبي لإيصال رسائل إلى الإيرانيين. وفي صحوتها السياسية هذه، تعتقد إدارة الرئيس بايدن أن هناك دورا للخليجيين عليهم الالتزام به.
الخليجيون هذه المرة لم يتحمسوا على الرغم من أن هدف المعركة في جوانب منها هو السيطرة على الخليج. لا شك أن الولايات المتحدة تحمي مصالحها في المنطقة. لكنها وهي تقوم بذلك، إنما تقوم بحماية المنطقة من الإيرانيين. أي سيناريو يوضع لاحتمال انسحاب الولايات المتحدة من التزاماتها في الخليج والبحر الأحمر والعراق وسوريا، يجب أن يضع في اعتباره أن هذا الانسحاب سيكون ضوءا أخضر لإيران لاجتياح المنطقة. بكل ما يحمله التواجد الأميركي من مؤاخذات ومشاكل، يظل البديل الواقعي الوحيد الذي يفصل الإيرانيين عن هدفهم في السيطرة على المنطقة.
لا يمكن إلا تفهّم الغضب الخليجي من تذبذب السياسات الأميركية. هذه سياسات متقلبة، كانت تتغير مع قدوم إدارة ورحيل أخرى، فصارت اليوم تتقلب خلال عهد الإدارة نفسها كما نشهد في حالة إدارة بايدن. تصرف الخليجيون دائما على أساس أن رجالات الإدارات الأميركية المتعاقبة هم حالة عابرة، وأنهم سيرونهم محامين ومستشارين بعد انتهاء عهدتهم الحكومية. أول ما تسمعه من المسؤولين الخليجيين الكبار هو أننا باقون بمسؤولياتنا أمام شعوبنا، بينما المسؤولون الغربيون راحلون.
لكن الإيرانيين أيضا باقون. وهم مرتاحون للفجوة المتزايدة بين دول الخليج الرئيسية والولايات المتحدة. هذا بالضبط ما كانوا يسعون إلى تحقيقه: تراجع الثقة بواشنطن، بل وانعدامها لدى البعض. ما الثمن الذي تدفعه إيران مقابل هذا الإنجاز الإستراتيجي؟ ضربات هامشية توجه إلى الميليشيات الموالية لها لا تكفي لهز سلطة تلك الميليشيات على دول مهمة في الإقليم، وجنرال إيراني تقوم إسرائيل باستهدافه بين حين وآخر في الإمكان تعويضه. بكل الحسابات، تبدو إيران رابحة من هذه المعادلة.
الغضب الخليجي من التذبذب الأميركي يقود إلى سياسة النأي بالنفس. لكن إذا كان ثمة شيء تعلمناه من العيش في الجوار الإيراني فهو أن لا شيء اسمه النأي بالنفس عن إيران.