قدّمت الأرقام التي نشرها منذ أيام المعهد الوطني للإحصاء في تونس صورة محيّنة عن تطور مؤشرات الاقتصاد التونسي.
يتجلى من خلال هذه الصورة أن التحدي الأكبر الذي مازال يواجه البلاد منذ 13 عاما هو توقف عجلة خلق الثروة عن الدوران بالسرعة المطلوبة، مما يعيق قدرة البلاد على تجاوز أزماتها في المستقبل القريب.
لا أدّعي أنني خبير في الاقتصاد، لكنني أصبحت منذ زمان – مثل كل التونسيين تقريبا- مشغولا بمؤشراته التي أرى فيها العامل المحدد لمستقبل البلاد ولنظرة الآخرين إليها.
قدّم المعهد فكرة واضحة ولكنها غير مطمئنة عن وضع الاقتصاد وآفاقه، خاصة على المدى القصير. أهم المؤشرات التي أوردها هي أن نسبة نمو الناتج القومي الخام لسنة 2023 لم تتجاوز 0.4 في المئة. وهذه النسبة، التي تقل عما كانت تتوقعه الحكومة، هي الأدنى منذ 2011، إذا ما استثنينا سنة الاحتجاجات العارمة التي أسقطت نظام بن علي وسنة جائحة كورونا.
تعود هذه النتيجة المتواضعة إلى نسبة النمو، حسب المعطيات التي قدمها المعهد نفسه، إلى عدة عوامل من بينها تراجع الإنتاج الفلاحي، نتيجة الجفاف الذي ألحق أضرارا جسيمة بالمحاصيل الزراعية السنة الماضية، وكذلك بسبب تقهقر إنتاج الموارد المنجمية وفي مجال الطاقة وتراجع أنشطة البناء والتعمير. في المقابل حافظت قطاعات السياحة والنزل والخدمات على منحى إيجابي.
ومن اللافت في الواقع استمرار التراجع في إنتاج الفوسفات سنة 2023 وذلك رغم كل محاولات الدولة والوعود التي أطلقها المسؤولون حول عزمهم دفع الإنتاج في هذا القطاع بعد أن تعطل منذ سنة 2011 لأسباب عدة. لكن ذلك لم يحصل وأضاعت البلاد على نفسها فرصة ارتفاع أسعار هذه المادة في الأسواق العالمية بعد حرب أوكرانيا. عادت هذه الأسعار الآن للانخفاض، مما سوف يحد من المداخيل الممكنة من التصدير حتى لو عاد الإنتاج إلى نسقه المأمول.
وبالرغم من تطور تحويلات المغتربين وعائدات السياحة والتحسن النسبي لمستوى الاستثمارات الخارجية سنة 2023 بالمقارنة مع السنة التي سبقتها فإن تدفق الاستثمار الخارجي مازال دون المأمول، إذ لم يتجاوز في نهاية العام الماضي حوالي 813 مليون دولار.
يعاني الاقتصاد أيضا من عدم كفاية الاستثمار الداخلي ومن توجه البنوك التونسية نحو تمويل القروض التي تحتاجها الدولة عوض تمويلها لمشاريع القطاع الخاص.
تحتاج تونس إلى تعزيز الثقة برؤاها الإستراتيجية وفي إمكانات اقتصادها سواء لدى رأس المال الوطني أو الممولين الأجانب. تحتاج الحكومة إلى خلق صورة بلاد مستقرة سياسيا واقتصاديا، بما في ذلك حوكمتها المالية والجبائية، بلاد مصممة على تذليل كل الصعوبات الإجرائية والقيود البيروقراطية أمام المستثمرين وحماية استثماراتهم.
عامل الثقة هو الذي سوف يشجع المستثمر الأجنبي على إطلاق مشاريعه في تونس عوضا عن الوجهات المنافسة. نفس الاعتبار تقريبا يجعل المستثمر التونسي لا يرى في توظيف رأسماله في تونس مقامرة غير محسوبة العواقب. وهو الذي يجعل التونسي يوجه طاقاته نحو الإنتاج والعمل عوض أن يقضي وقته في الجري وراء طلبات التأشيرة والبحث عن أيسر الطرق للهجرة إلى الخارج.
دون توفر عنصر الثقة لا يمكن أن تتوفر الظروف الملائمة كي يتحرك الإنتاج وتتحسن نسبة نمو الاقتصاد من أجل خلق ما يكفي من مواطن الشغل التي يحتاجها شبابها. يقول البنك الدولي إن اقتصاديات دول العالم تحتاج أيضا إلى تسريع نسق نموها لمواجهة آجال تسديد ديونها.
مؤشرات التشغيل والبطالة التي تضمنتها أرقام المعهد الوطني للإحصاء أبرزت استمرار تحدي التشغيل ولو أنها أظهرت انخفاضا في نسبة البطالة بين أصحاب الشهادات الجامعية. فقد نزلت هذه النسبة من 30 في المئة تقريبا منذ عشر سنوات إلى حوالي 23 في المئة حاليا. ربما لم تعد تونس تملك الرقم القياسي العالمي في بطالة خريجي الجامعات ولكن ليس من الواضح إن كان ذلك يعود إلى تحسن نسق تشغيل هؤلاء في الداخل أو إلى ابتعاد شريحة هامة من الكفاءات الشابة عن البحث عن فرص العمل داخل البلاد.
يبقى من دواعي الانشغال أن نسبة البطالة ارتفعت بصفة إجمالية إلى 16.4 في المئة، وبلغت لدى الشباب على وجه الخصوص ما لا يقل عن 40 في المئة.
أصبحت تونس حسب الأرقام الرسمية تعد نحو 667.5 ألف عاطل عن العمل. ولا يسع المرء إلا أن يتساءل كيف يقضي أفراد هذا الجمع الكريم من العاطلين والعاطلات عن العمل أوقاتهم، وكيف (وهذا الأهم) يحصلون على قوتهم وقوت أولادهم، وكم من مرة في اليوم يفكرون في الهجرة بنوعيها النظامي وغير النظامي.
كلما تباطأت نسبة النمو كلما تفاقمت مشكلة البطالة في تونس. كانت هذه القاعدة صحيحة ولا تزال. كان الحاج أحمد الصالحين الهوني مؤسس “دار العرب” رحمه الله يردد على مسمعي خلال العقد الأخير من القرن الماضي انشغاله الشديد ببطالة الشباب الذي يملأ المقاهي في تونس. وكان لا يمل من لفت انتباه الرئيس الراحل وين العابدين بن علي للخطر الذي يمثله ذلك. وأظهرت انتفاضات الشوارع لسنتي 2010 و2011 أنه كان محقا في تخوفاته.
أظهرت الأرقام أيضا استمرار عدم التكافؤ في فرص التشغيل بين الرجل والمرأة. كان هناك دوما فرق في النسب بين الجنسين، ولكن هذا الفرق تحول إلى بون شاسع زمن الأزمة الاقتصادية الحالية. فقد بلغت نسبة البطالة لدى خريجي الجامعات 12.3 في المئة لدى الذكور مقابل 33 في المئة لدى الإناث. أما النسبة الإجمالية للبطالة لدى الرجال فهي تبلغ 13.8 في المئة في حين تبلغ 22.2 في المئة لدى النساء.
لكن تفوق الذكور على الإناث في فرص التشغيل يختفي لدى الشباب بين 14 و25 سنة. فمعدل البطالة لدى هذه الفئة العمرية أعلى قليلا بين الذكور (42.1 في المئة) منه بين الإناث (38.2 في المئة). وقد تعود هذه الظاهرة لمواصلة الفتيات لتعليمهن لفترة أطول من الشبان في المدارس والجامعات. ولكن موازين التفوق في فرص التشغيل تنقلب إلى العكس بعد التخرج من الجامعة.
تزامنت هذه الأرقام مع تعيين محافظ جديد للبنك المركزي هو فتحي زهير النوري. المحافظ الجديد لم يدل بعد بتصريحات جديدة توضح رؤاه وتوجهاته. ولكن تسجيلات لأحاديث إذاعية سابقة للمحافظ الجديد وفّرت على الجميع عناء البحث عن مواقفه، وقدّمت صورة عنه توحي بالواقعية والجرأة في الإفصاح عن الرأي. هذه الصورة قد تتطابق وقد تتناقض مع المواقف التي سوف يتخذها بعد تحمله لمسؤولياته الجديدة. لكن النوري يقول في أحاديثه الإذاعية إنه لا بديل لتونس عن التعامل مع صندوق النقد الدولي وإن كان لها الحق في الحرص على ضمان شروط السلم الاجتماعية. ومن أهم ما قاله النوري أن تسيير الاقتصاد يخضع لثوابت متعارف عليها ولا يمكن أن يتحسن إلا بالقرارات العقلانية واعتبارات الجدوى.
هذا النزوع إلى الواقعية من شأنه أن يخلق مناخا ملائما لإيجاد صيغة تفاهم مع صندوق النقد الدولي تفتح الباب تدريجيا بالنسبة إلى تونس أمام التمويلات الخارجية التي شحت بعد الفشل في التوصل إلى اتفاق مع الصندوق فيما تواصل تراكم الديون الداخلية والخارجية.
وقد يمهد اهتمام هذه المؤسسة الدولية – من خلال تصريحات مسؤوليها- بالأوضاع الاقتصادية في تونس أمام اتخاذ خطوات ملموسة لرأب الصدع بين الطرفين.
في خضم الأرقام والمؤشرات يبقى هناك سؤال جوهري مطروح: أي منوال للتنمية أفضل لتونس حتى تخلق الثروة وتضمن انتفاع أغلبية التونسيين بها؟ مازالت الآراء متباينة حول هذا الموضوع. لكن هناك قناعات تشكلت بعد 2011: لقد فشلت التصورات “النيوليبرالية” في تحقيق الانطلاقة التي كانت تحتاجها تونس خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي. واتضح للجميع أن للدولة مسؤولية اجتماعية أساسية تجاه مواطنيها لا يمكن تجاهلها. ويبقى لها دور أساسي لا بد أن تلعبه في رسم التصورات الكبرى وترشيد المناخ الذي يتحرك فيه رأس المال وتأمين الخدمات الأساسية التي يحتاجها المواطن. ولكنه ليس بإمكانها أيضا أن تحل محل القطاع الخاص في سائر الأنشطة الاقتصادية، خاصة منها التنافسية، أو أن تواصل تحمل عبء انخرام موازنات الشركات الحكومية دون أي إصلاحات جوهرية.
وفي الأثناء لا يمكن أن يتحول النقاش حول منوال التنمية إلى تعلة لتأخير البدء في الإصلاح والبناء الاقتصادي والاستمرار في “فترات انتقالية” لا تنتهي بشكل يعطي انطباعا مربكا بالضبابية وعدم الاستقرار.
تحتاج تونس اليوم بشكل عاجل إلى تسديد ديونها ومواجهة نفقاتها الأساسية. ومن حقها في هذا المجال أن تطمح لتعاون أفضل من أشقائها وأصدقائها وشركائها.
وهي تحتاج إستراتيجيا إلى الاستثمار قبل كل شيء في نمائها، الذي هو وحده الكفيل بتقليص مستويات البطالة والفقر وتعزيز مكانة الطبقة الوسطى وتطوير أداء المؤسسات التربوية والثقافية وغيرها.
سوف يكون التحدي صعبا ولكنه ليس مستحيلا. تونس لها موقعها الجغرافي المتميز وأصدقاؤها وشركاؤها التقليديون ولها قبل كل شيء شبابها الكفء. ولها كذلك إرثها التاريخي الذي تستمد منه قوة العزيمة التي عبر عنها القائد القرطاجني هانيبال عندما قال وهو يبحث له عن طريق في جبال الألب: “إمّا أن نجد الطريق أو أن نبنيه بأنفسنا”.