ما أن أصبحت صفقة التبادل بمراحلها الثلاث بين أيدي الناس منذ مساء الأربعاء حتى حبس الكبير والصغير أنفاسهم بانتظار ساعة الصفر تلك اللحظة التي يتوقف فيها جحيم الموت الذي عاشوه على مدار ما يزيد عن خمسة عشر شهراً فقدوا خلالها أحبابهم وفلذات أكبادهم و في هذه اللحظات العصيبة وكأنها الدهر ينتظرون بفارغ الصبر بدء سريان وقف النار ليسارع مادم كتب له النجاة حيث بالبحث عن ما تبقى من أشلاء لمن يحبون تحت أنقاض البيوت و على أطراف الشوارع.
وربما ممن اختلطت لحومهم الطرية في السيارات التي قصفها الاحتلال على الطرقات ، هذا الاتفاق الذي فرح له الناس كونه يمثل لهم فرصة النجاة من الموت الذي صارعوه لخمسة عشر شهر ٍ طوال وما زالت دولة الاحتلال تمارس فاشيتها بوحشية لافساد هذه الفرحة وتحويلها إلى مآتم وساعات للبكاء والحزن على الاحبة الذين يفقدون حياتهم في هذه الساعات قبيل البدء بتنفيذ صفقة النجاة من الموت حيث تتواصل طيلة ساعات الليل و في بحر النهار عمليات نسف المنازل في شمال قطاع غزة ويزداد القصف شدة و عنف من طائرات الاحتلال التي لا تغيب عن سماء القطاع كله تُلقي حممها بمئات الصواريخ وأطنان المتفحرات على مختلف الأحياء وتسويها بالارض في مدينة غزة مستهدفاً البيوت ومراكز الايواء مخلفة مئات الضحايا من النساء و الأطفال والشيوخ.
اقرأ أيضا.. النصر والهزيمة في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي
كما يتواصل القصف في الوقت ذاته قصف مناطق جنوب قطاع غزة مستهدفاً خيام النازحين الذين بدأوا بحزم أمتعتهم و خيامهم البالية بانتظار العودة التي طال انتظارها لأشباه البيوت و العمارات المدمرة في شمال غزة ، قبيل ساعة الصفر المنتظرة يشتد القصف والشهداء تمزقهم صواريخ الاحتلال وقذائفه تحولهم إلى أشلاء في مشاهدٍ مروعة تعيد للأذهان الأيام و الأشهر الأولى من حرب الابادة الأكثر عنفاً و وحشية خلال القرن الحالي ، ليس ذلك فحسب فإن استمرار التلاعب بأعصاب الناس حول تأجيل الموعد المعلن للتنفيذ بات يقلق الناس و يجعلهم يتوجسون خوفاً من أن تتبدد آمالهم وتذهب أدراج الرياح رغم أن كافة المعطيات تشير إلى أن هذه الصفقة كونها هدية للرئيس الأمريكي ترامب و هو يستعد للدخول للبيت الأبيض ماضية في طريق التنفيذ خاصة في مراحلها الأولى والثانية مما يجعل من الاتفاق برمته مجرد اتفاق لتبادل الأسرى ذات طابع أمني إلى جانب سيل الشاحنات التي تحمل أطنان من المساعدات الإنسانية مما يجعله اتفاقاً خالياً من أي مضامين سياسية تتعلق بأهداف وحقوق شعبنا الفلسطيني التي طالما ناضل و قدم التضحيات من أجلها و في مقدمتها حقه في تقرير مصيره و اقامة دولته الفلسطينية المستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة بعاصمتها القدس.
من الواضح أن الاحتلال الذي يصر على حصر الأمر بالشقين الأمني والاحتياجات الإنسانية سيعمل على اعتاب انتهاء هاتين المرحلتين على اختلاق العقبات والعراقيل والبحث عن الفرص و الذرائع للتهرب من تنفيذ المراحل اللاحقة للاتفاق بما يمكنه من العودة مجدداً لتنفيذ مخططاته في التدمير والتهجير وإبقاء قضية شعبنا حبيسة البعدين الأمني و الإنساني في أفضل الأحوال ، إن مثل هذا الاحتمال الكبير هو أكثر ما يقلق الناس و يثير مخاوفهم بعد عامٍ من الموت والمجاعة والنزوح تجرعوا خلالها كؤوس الذل و المهانة بكل معانيها.
إن هذا الواقع الذي نواجهه دون رتوش يضع تحديات و مسؤوليات كبيرة أمام القوى و الأحزاب السياسية الفلسطينية كافة أولاً في تفويت الفرصة على نوايا الاحتلال في العودة مجدداً لاستئناف حرب الابادة أو حصر الأمر في البعدين المذكورين أعلاه ، ومن الضروري اغتنام ما يمكن أن توفره المرحلة الأولى و الثانية من فرص لالتقاط الأنفاس و تقييم ما يجري دون مكابرة و مبالغة بل بقراءة موضوعية واقعية للمرحلة التي نعيشها وتعيشها المنطقة برمتها و الذهاب دون تسويف ومماطلة والابتعاد عن توفير أي ذريعة أو فرصة يترقبها الاحتلال للعودة لمسلسل النار و الدمار الذي لم نعد نحتمل .
إن المسؤلية الوطنية تتطلب تظافر الجهود المخلصة لاستعادة مكانة القضية الفلسطينية باعتبارها قضية سياسية وليست مجرد قضية أمنية و إنسانية كما يراد لها أن تكون ، ومرة أخرى اقول ان مثل هذه المهمة العاجلة لا يمكن لأحد القيام بها سوى منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي الوحيد لشعبنا مستندة لتضحيات شعبنا على مدار قرن من الكفاح الوطني و لما اكتسبته من خبرةٍ وعلاقات سياسية ودبلوماسية على المستويين الاقليمي و الدولي و لما حققته إيضاً و حصلت عليه كذلك من اعترافات و قرارات دولية بمكانة القضية الفلسطينية وحق شعبنا في تقرير المصير واقامة دولته المستقلة بعاصمتها القدس.
وبالعودة للأيام والساعات التي تسبق ساعة الصفر لتنفيذ الاتفاق فإن التجارب الطويلة تؤكد أن القصف سيشتد و دائرته ستتسع نحو ارتكاب المزيد من المجازر حتى الدقائق الاخيرة قبل بدء التنفيذ الأمر الذي يتوجب من الجميع الحذر و الانتباه و الحدِ من التنقل و التحرك إلا للضرورة القصوى ليتجنب شعبنا المزيد من الخسائر في اللحظات الأخيرة والحاسمة ، إن من واجه المجاعة والموت وصمد في أتون المحرقة و هي في أوجها عليه أن يكون حذراً من يطاله اللهيب في لحظاته الأخيرة.