قد لا يخطر ببال البعض أنّ التجسس قديم قدم البشرية، فقد نشأ وترعرع مع أبناء “آدم” وتحديداً “قابيل و هابيل” وفق ما ورد اسميهما في التوراة. عندما راقب قابيل شقيقه هابيل في الخفاء، كيف تُقبِّلَ قُربان أخيه ولم يُتقبَّل منه؟ فعَمد إلى أساليب ملتوية عسى أن يُقبل منه، فتنكر بدايةً في هـيئة هابيل ليحصل على بركة القُبول فلم يفلح.
حاول ثانية تغطية النقص بالمعلومات لديه عبر استقصائها من والدته، عسى أن يكتشف “شيفرة” قبول القرابين فلم ينجح، أقدم ثالثة على مُضاعفة حجم القربان فلم يَتَبدل الأمر، وقف حينها حائراً، فلا حقائق متوفرة لديه سوى هابيل نفسه، وعندما سَمِع السبب، كان الحسد قد نَال منه حقداً، فزيّنَ له عدوه قتل أخيه فأصبح من الخاسرين.
من هنا بدأت أولى عمليات التجسس، التي غالباً ما انتهت بالقتل أو الفتنة أو الحرب، فالتجسس موروث جيني لدى البشر وحاجة وجودية للبقاء والسيطرة، اعتمدته القبائل القديمة للصيد الغذائي، ولاستطلاع الأراضٍ الجديدة، أوفي سبيل الاغارة على قبيلة ما.. وفي التاريخ اعتمده الصينيين والفنيقيين والاغريق والآشوريين والرومان والمصريين القدماء، الذين كانوا أول من نظّم عمليات التجسس تنظيماً دقيقاً، فاستخدموه بشكل فعّال نتيجة الخطر التقليدي الآتي من الشرق، وأيضاً على امتداد نهر النيل جنوباً.
وعند شاطئ نهر النيل عُثر على “موسى” طفلاً، فكفله قصر الملك، ودرس هناك علم الأمراء، ومنها التكتيكات العسكرية وفن التجسس، وكان المناخ السياسي قد تبدل في مصر منذ حقبة طويلة من الزمن، تغّيرمعه مزاج الحُكّام اتجاه بني إسرائل، فسخّروهم لأعمال البناء، ما أزعح “موسى” الذي قتل مواطناً مصرياً، ففرّ إلى سيناء هارباً ومجرماً… ليعود إلى مصر محرراً ونبيا… فجاهد في إقناع قومه بضرورة المغادرة والرحيل إلى أرض الكنعانيين، حيث قَادَهُم باتجاه الشرق، قاطعا الصحراء بهدف الوصول إلى الأرض الموعودة بغية إقامة “حُلم الدولة”، للأسباب التالية:
نتيحة لتعرضهم للاضطهاد في مصرعلى مدى 4 قرون، تعززت في ذهنية “بني إسرائيل” ميثولوجيا دينية حول “الملاذ الآمن” ألا وهي أرض كنعان، هذه الأرض التي هاجر إليها “نبي الله إبراهيم” (الجَد الأكبر لموسى)، بعد تعرضه للقمع والتنكيل من قبل حاكم مدينة “أور” الكلدانية، حيث عاش متنقلاً في بلاد الكنعانيين بأمان مُطلَق، ينشر دعوته التوحيدية بحرية تامة.
ترسيخ المفهوم التنظيمي للدولة في ذهنية “موسى” وهو الذي عايش السلطة في كَنفِ الحاكم المصري، فظهرت لديه رؤية بإقامة دولته، لتحويل بني قومه من قبائل بدوية متناحرة إلى شعب متحضر تحت سقف دولة دينية موحِدَة، حيث بدأ باستطلاع حضارات قائمة لها مقوماتها للسيطرة عليها.
الحضارة والمدنية التي تميزت بهما المدن الكنعانية في ذلك العصر، إن في الهندسة المعمارية، أو في بناء السفن إضافة إلى أرضها الخصبة، كما أنها شكلت عقدة طرق رئيسة للتجارة إلى أصقاع العالم القديم، جعل منها محط أنظار الطامعين بمن فيهم بني إسرائيل.
التباين في وجهات النظر السياسية والشخصية بين “موسى” و”فرعون” منذ نشأتهما في القصر سويا.
لدى وصول “موسى” إلى مقطع أرض جديد، على مشارف أرض كنعان، اختار من كل قبيلة شخص واحد، أي 12 عنصراً، ليتجسسوا أرض كنعان (وفقاً للنص التوراتي) ، فعادوا بوصف دقيق لطبيعة الأرض وعُمّارها، إلا أنهم خشيوا سكانها فأشاع 10 منهم الخوف والرعب في قلوب القوم، باستثناء إثنين وهما “كالب بن يفنة” و”يوشع بن نون”، وسرعان ما تأثر قوم موسى ب”بروباغندا” المستطلعين العشرة، وطلبوا من قائدهم العودة بهم إلى مصر على الرغم من الذّل والعبودية هناك، على أن يواجهوا الكنعانيين، ما نتج عنه التالي:
أول تجربة تجسس فاشلة ل”موسى”، تندرج في إطار الاستطلاع.
أول عملية “بروباغندا إسرائيلية” أطلقها “الجواسيس العشرة”، لتصبح المدماك الذي بُنيت عليه الدعاية الصهيونية لاحقاً.
ورود النص الواضح عن التجسس في التوراة، غدا بالنسبة لليهود أمراً إلهياً، على رأي بعض الحاخامات، ارتكزت عليه الصهيونية فيما بعد لتُبيح المحظورات.
تأثير “الدعاية” على قوم “موسى” في حينها، يُبيّن مدى ضعف وهشاشة المجتمع اليهودي، وهو إرث إنتقل مع الأجيال إلى يومنا هذا.
بعد وفاة “موسى” تولى القيادة “يوشع”، فتابع من بعده “مشروع الدولة”، وتتطور العمل الميداني حيث أرسل جاسوسيّن إلى أريحا، “فذهبا ودخلا بيت امرأة زانية اسمها راحاب واضطجعا هناك” (سفر يشوع 1:2) ليتغير الخطاب الأخلاقي التوراتي بشان التجسس برمته.
عندما انكشف أمرهما عملت فوراً على تهريبهما لتصبح أول “جاسوسة” من الكنعانيين، تحولت إلى “الإسرائيلية” حينما دخلوا “أريحا” حيث أبادوا سكانها إلا منزل “راحاب”…وبهذا كانوا أول من استخدم “بائعات الهوى” كمصدر معلومات، ومن هنا حضرت فتوى الحاخامات للوزيرة السابقة “تسيي ليفني” الناشطة مع الموساد باستخدام “الجنس”، للايقاع بشخصيات والحصول على المعلومات.
تواصلت عمليات التجسس بعد احتلالهم لأرض الكنعانيين، وخاصة خلال حكم “داوود” وولده “سليمان” من بعده.. إلى أن كان الخراب الأول (وهو تدمير هيكل سليمان أول مرة في العام 586 قبل الميلاد على يد ملك بابل نبوخذ نصر)، ثم الخراب الثاني (وهو تدمير الهيكل للمرة الثانية على يد الرومان في العام 70 ميلاديا). حيث انتشروا في الشرق وكذلك في شمال أفريقيا، وأطلق عليهم تسمية “يهود الشتات”، لكن أعمالهم الجاسوسية لم تنقطع حيث استمرت بذلك أينما وطأت أقدامهم، وتطورت على النحو التالي:
جواسيس مرتزقة يخدمون الحاكم أياً كان بهدف الربح المادي.
“عملاء مزدوجون” لدى عدة حكام، نشطوا في زرع الفتن بين الدول.
التجسس الإقتصادي بهدف الإبتزاز: أحوال الأراضي الزراعية، النشاط المالي، الصناعي.
حتى ظهرت في الغرب الحركة الصهيونية أواخر القرن 19, التي قامت على فكرة إيجاد كيان سياسي يجمع “يهود الشتات” بالإضافة إلى يهود أوروبا والأمريكيتين، حين اعتبر “تيودور هرتزل” نفسه “موسى عصره”، فكانت فلسطين، وكانت حاجتهم إلى شبكة تجسس مُنظّمة تتبع للحركة الصهيونية تعمل ضمن الأراضي المقدسة، فولِدت “نيلي” وهي اختصار لجملة “نتساح يسرائيل لو يشاكر” وهو اقتباس توراتي ترجمته “خلود إسرائيل ليس يكذب”، (أعاد نتانياهو استخدام الاسم وأطلقه على الوحدة المكلفة بتنفيذ الاغتيالات لقادة حماس).
و”نيلي” أول شبكة تجسسية صهيونية، أسسها في فلسطين خلال الحرب العالمية الأولى عالم النبات الصهيوني “آرون آرونسون”، عملت لصالح البريطانيين ضد الأتراك، وهي مكونة من إخوته بما فيهم “سارة” شقيقته، واثنين من أصدقاء العائلة، عملوا جميعا في مختبر للأبحاث النباتية، الذي كان غطاءً لشبكة “نيلي” التجسسية، مستغلاً آرون مهنته للتقرب من السلطات العثمانية.
وعندما انتشر الجراد عام 1915، مُنِحَ آرون صلاحيات عسكرية كاملة، مكنته من التنقل بين المدن السورية واللبنانية، حيث جَمَعَ معلومات حول حجم القوات العسكرية التركية، وأرسلها إلى الاستخبارات البريطانية في القاهرة. وأنشأت شقيقته سارة شبكة “راحاب للدعارة”، للايقاع بالضباط العثمانيين والألمان، وجمع المعلومات منهم.
فنشرت “بائعات الهوى” على إمتداد فنادق القدس، ودمشق، وبيروت، حيث تتواجد المقرات العسكرية التركية والألمانية، وتمكنت شخصياً من الوصول الى “أحمد جمال باشا” (السفاح)، الحاكم المطلق لبلاد الشام آنذاك، فاستطاعت في فترة وجيزة من أن تصبح عشيقته ومحل ثقته.
وقد نجحت مع شبكتها النسائية في جمع معلومات هامة عن الجيش العثماني مما تسبب بهزيمة ساحقة للقوات التركية في غزة. أُعتقلت في العام 1917، لكنها تمكنت من الإنتحار. وبعدها بشهرين قُتل أيضاً قيادي آخر من شبكة “نيلي” المدعو “أفشالوم فاينبيرغ”، أما “آرون” فقد استطاع الهرب، وقُتل في العام 1919 بحادث تحطم طائرة غامض.
على أثر احتلال المملكة المتحدة لفلسطين ازداد النشاط الاستيطاني للصهيانة، ولتفعيل الهجرة بصورة سرية وغير شرعية، أقدموا في العام 1937 على إنشاء “منظمة الهجرة غير الشرعية” اختصرت بكلمة “الموساد”. وبعد نشأة الكيان الغاصب أنشأ على مراحل عدة أجهزة إستخباراتية، بإلاضافة إلى “الموساد”، وهي: “شاباك أو شين بيت” و”آمان”، والوحدة 820 (SIGINT).
بات واضحاً أن اليهودية هي الديانة الوحيدة التي أباحت التجسس اللأخلاقي، حيث استغلته الصهيونية عن طريق اقتباس الروايات الجاسوسية التي وردت في “التناخ” وتقمصتها، بعد أن اصطبغت ثوبها الديني وأطلقت بُعدها القومي، لتجعل من الجاسوسية “فرض من الله” على كل يهودي ويهودية، فأجازت لهم استعمال كافة الوسائل الممكنة، حين وظفت لهم كل العناصر السلبية المتوفرة في المجتمعات من الخمر فالميسر إلى الإستغلال الجنسي… وصولاً إلى مختلف وسائل التواصل الأجتماعي بما فيهم ألعاب التخاطب الألكتروني.
كل هذا بهدف الفوز بالمعلومات عبر الايقاع بالأشخاص المستهدفين بغية إبتزازهم مادياً، جسدياً، مهنياً وحتى عائليأً… وفي نهاية الأمر تدميرهم فهم بالنسبة لهم أقل من البيادق على رقعة الشطرنج.