بعد طول انتظار وأزمات سياسية واقتصادية وداخلية، وفراغ رئاسي طويل، وفراغات سياسية أطول، وعهود رئاسية وحكومية بحكم الغائب… صارت سنة الألفين وزبط البلد مجدداً.
احتفل اللبنانيون بانتخاب رئيس للجمهورية موصوف بقوته والتزامه وصرامته، وتكليف قاضٍ معروف بنزاهته وعدله وصلابته لتشكيل الحكومة. فتفتح في نبض كل لبناني الأمل بعد سنوات من الانكسار باسم العلاقات الثنائية والتحالفات الإقليمية.
والسؤال: ماذا بعد سنة الألفين؟ ماذا بعد عقود من تفتت اللبنانيين وانقسامهم؟ ماذا بعد خرق السيادة اللبنانية في كل مفاهيمها تحت شعار تحرير فلسطين انطلاقاً من لبنان ووحدة الساحات؟ ماذا بعد توقيف القضاء وتسييسه؟ ماذا بعد قمع الحريات؟
كلها مسائل مهمة وأساسية تبدأ بالتجلي أولاً في البيان الوزاري للحكومة الجديدة. فمنذ سنوات، تحكم الحكومة اللبنانية باسم الاستراتيجيات الخارجية والتضامن الإقليمي والشراكة والقناعات المشتركة، وتمنح الشرعية لتخزين الأسلحة بين المدنيين، داخل المجمعات السكنية، وفي الجامعات، المصارف، المدارس، والمستشفيات في البيانات الوزارية المتتالية.
كما تمنح الشرعية لارتهان لبنان واستعماله ورقة مفاوضات، في حين ينص قانون الأسلحة والذخائر اللبناني في المادة ٢٤ انه “يُحظر على أي شخص نقل الأسلحة والذخائر أو حيازتها المنصوص عليها في الفئة الرابعة في الأراضي اللبنانية، ما لم يكن حائزاً رخصة من قيادة الجيش.”
وكذلك تمنح الشرعية لارتهان لبنان، في حين ينص قانون الدفاع الوطني في مادته الأولى على أن:
“الدفاع الوطني يهدف إلى تعزيز قدرات الدولة وإنماء طاقاتها لمقاومة أي اعتداء على أرضها وأي عدوان يوجه ضدها، وإلى ضمان سيادة الدولة وسلامة المواطنين. يمكن استخدام القوى المسلحة في الحقول الإنمائية والاجتماعية، شرط ألا يعيق ذلك مهامها الأساسية. ويقصد بالقوى المسلحة: الجيش، وقوى الأمن الداخلي، والأمن العام، وسائر العاملين في القطاع العام الذين يحملون السلاح بحكم وظيفتهم.”
كانت البيانات الوزارية تشرّع السلاح غير الشرعي بصيغ عديدة، إما من خلال اعتبار:
• “أن المقاومة اللبنانية وسلاحها هما تعبير صادق وطبيعي عن الحق الوطني للشعب اللبناني في الدفاع عن أرضه.”
• أو عبر التأكيد “على حق لبنان، بشعبه وجيشه ومقاومته، في تحرير أو استرجاع الأراضي المحتلة.”
• أو بشكل أكثر شمولية وخطورة من خلال التأكيد على “الحق للمواطنات والمواطنين اللبنانيين في المقاومة للاحتلال الإسرائيلي ورد اعتداءاته.”
علماً أن مفهوم المقاومة كان ليكون جائزاً لو لم يتم حصره بحزب قراره مرهون بدولة أجنبية تنتهك سيادة لبنان بكافة مفاهيمها.
في حين أنه لا دولة من دون أرض، وشعب، وسلطة سياسية سيادية، فإن كل ما ورد في البيانات الوزارية المتتالية منذ أكثر من عشر سنوات، من تشريع لحق المواطنين أو الجماعات أو الأحزاب الداخلية بالمقاومة في لبنان، هو تهديد لهذه العناصر الثلاثة واستباحة غير مسبوقة لمفهوم الدولة.
لأن الدولة اللبنانية، أي الجيش اللبناني، هو وحده المسؤول عن حماية الأراضي اللبنانية (١٠٤٥٢ كلم²) ومواجهة الاحتلال. وأي تشريع لمواجهات أخرى هو تعدٍّ على مفهوم الدولة السيادية من جهة، وعلى كافة المفاهيم القانونية والنظامية والقضائية من جهة أخرى، بل هو تشريع للفوضى والعنف واستقواء جماعة على الآخرين، وإحداث اختلال في موازين القوة، وانقسامات داخلية ومحورية وتجاذبات، وإعدام لمفهوم الدولة والسياسة والأمن والاستقرار.
إقرأ أيضا : ماذا تبقى من ترسانة حزب الله؟
لبنان قاوم على مدى عصور، ودفع من نبضه ودمائه وشبابه وشهدائه وأطفاله، ومن تاريخه وحضارته واستقراره وأمنه وروحيته، أغلى الأثمان.
في المرحلة المقبلة، نأمل أن يكون لبنان الجديد في سلام دائم وعادل وشامل، قائم على الثوابت الوطنية وعلى تنفيذ قرارات الشرعية الدولية، وحل النزاعات الدولية في إطار الأمم المتحدة. وأن نشهد لبنان الـ ١٠٤٥٢ كلم² خالياً من الأسلحة غير الشرعية.
لا بد من أن يكون لبنان، النبض الجديد الحر، متمسكاً اليوم أكثر من أي وقت مضى، فعلياً وعملياً، بكافة مكوناته بالشرائع والمواثيق الدولية وحقوق الإنسان، وحق الشعوب في تقرير مصيرها. ولا بد أن يكون الجيش وحده المسؤول عن الدفاع عن سيادة الوطن وحماية وحدة أراضيه، فلا يكون المواطنون في دولة السيادة والقانون مسؤولين عن مقاومة الاحتلال.
اللبنانيون مترقبون ما إذا كان البيان الوزاري سيشرّع المواجهات المسلحة التي أثبتت التجارب أنها لا تحقق أي هدف، أم سيكون مخالفاً لكل ما سبق، فيكون بيان الأمل والمدماك الثاني لبناء دولة ستحمي حقوق مواطنيها.
ينبغي أن تتحمل الحكومة مسؤوليتها في بناء دولة القانون، العدل، والمساءلة. حكومة لا تتنازل عن حقها في ملاحقة أي معتدٍ على السيادة بالوسائل الدبلوماسية والقانونية، والتي ستقاوم لإحقاق الحق مقاومة وطنية سياسية قضائية وجيش وحده يدافع عن اراضيه.
وبالطبع، على الحكومة أن تلتزم بالمواثيق وبالتزاماتها الدولية، عبر تنفيذ الاتفاقات كما “الترتيبات” دون نقصان، فنكون أمام بيان يحمل هذا الالتزام، ويطبّق قانون الدفاع الوطني حصراً، منعاً لتكرار المواجهات وتجدّد الدمار تحت عنوان تحرير الإقليم قبل إكرام اللبنانيين.