تونس

البنك المركزي عقل الدولة التونسية وقرطاج قلبها

لا يمكن للرئيس التونسي قيس سعيد، الذي خاض الانتخابات رافعا شعار العدالة الاجتماعية، أن يترك عقل الدولة (البنك المركزي) ينفرد باتخاذ القرارات، لأن البنك سينحاز حتما لمصالح أصحاب رأس المال،

هناك أمور لا يمكن أن يُترك الحكم فيها للعقل وحده، ولا للقلب وحده. الدليل، عندما احتكم النظام الرأسمالي للعقل وحده، قاد الرأسمالية إلى التوحش، وهو ما اضطر الحكومات في الدول الرأسمالية إلى الاحتكام للقلب وتبني مفهوم العدالة الاجتماعية حماية للفقراء ومحدودي الدخل والمهمشين.

لا يمكن للرئيس التونسي قيس سعيد، الذي خاض الانتخابات رافعا شعار العدالة الاجتماعية، أن يترك عقل الدولة (البنك المركزي) ينفرد باتخاذ القرارات، لأن البنك سينحاز حتما لمصالح أصحاب رأس المال، هذه هي المهمة التي أوكل إليه القيام بها. لا بد، خاصة في وضع تونس الدقيق ووضع العالم ككل، من طرف آخر يمارس دور القلب، وهو في الحالة التونسية موجود في قرطاج وساحة القصبة، وليس في شارع الهادي نويرة.

يجب أن لا يُفهم من ذلك تهميشا لدور البنك المركزي، بل هو أنسنة لهذا الدور، وحماية له من الوقوع في التوحش. الغريب، والحال هكذا، أن تكون أحزاب المعارضة في طليعة المنتقدين لقرار الرئيس قيس سعيد أنسنة القرارات المالية وتعديلها لتراعي ظروف شريحة واسعة من محدودي الدخل.

من عاش في بريطانيا في تسعينات القرن الماضي لا بد أن يذكر “الأربعاء الأسود”، تحديدا 16 سبتمبر 1992. في ذلك اليوم قفز سعر الفائدة إلى 15 في المئة. كانت بريطانيا حينها منضوية في آلية سعر الصرف الأوروبية (ERM)، استعدادا للوحدة النقدية الأوروبية.

تعرض الجنيه الإسترليني لضغوط شديدة رافقتها تكهنات بأن الجنيه الإسترليني مقوم بأعلى من قيمته الحقيقية. وهو ما دفع مدير صندوق تحوط ومضارب كبير، جورج سوروس إلى المراهنة بأرقام ضخمة على انخفاض سعر الجنيه، محققا أرباحا خيالية، ليشار إليه لاحقا باسم “الرجل الذي كسر بنك إنجلترا”.

في محاولة لدعم الجنيه ومنع المضاربة عليه، رفعت الحكومة البريطانية أسعار الفائدة بشكل كبير، وصلت كما أشرت إلى 15 في المئة. وتدخل بنك إنجلترا (البنك المركزي البريطاني) بشراء كميات كبيرة من الجنيه الإسترليني، ولكنها جهود باءت بالفشل.

عندما فشلت حلول العقل كان لا بد من اللجوء إلى القلب واتخاذ قرار سياسي. نهاية القصة معروفة، اضطرت بريطانيا إلى الانسحاب من آلية سعر الصرف الأوروبية حماية لمصلحة البريطانيين، خاصة أصحاب الدخل المحدود.

الرئيس قيس سعيد لم يتخذ قرارات شخصية انفرادية، بل جاءت قراراته بعد نقاشات واجتماعات مع ذوي الاختصاص، من بينهم أساتذة جامعيون في العلوم الاقتصادية والاجتماعية.

إقرأ أيضا : هل فعلا هدد ترامب بوتين بضرب موسكو “اللعينة”؟

قبل أن أنهي هذا الجدل لا بد من أن أبدي دهشتي من هؤلاء الذين وجدوا في مشروع يهدف إلى رفع نسبة الضرائب على ذوي الدخل العالي لتصبح 40 في المئة أمرا مبالغا فيه. هل يعرف المحتجون أن الضريبة على أصحاب الدخل العالي في فنلندا تبلغ 57.3 في المئة، وفي الدنمارك 55.9 في المئة، وفي السويد تبلغ 52 في المئة، وفي بريطانيا تبلغ 45 في المئة..

وهل يعرف هؤلاء أن كبار الرأسماليين، أمثال بيل غيتس ووارن بافيت، طالبوا الحكومات برفع نسبة الضرائب التي يدفعها الأثرياء حماية بالدرجة الأولى للنظام الرأسمالي حتى لا يتحول إلى نظام متوحش.

وكان مشروع قانون الموازنة في تونس قد أظهر عزم الحكومة على رفع الضرائب على الموظفين أصحاب الدخل المتوسط والعالي، وستخفض الحكومة الضرائب على أصحاب الدخل الضعيف. وفي حين تعتزم الحكومة تخفيض الضريبة على أصحاب الدخل المحدود، فإنها سترفعها تدريجيا لمن يتجاوز راتبه الشهري 30 ألف دينار سنويا (9733.94 دولار).

أما الضريبة على من يبلغ دخله السنوي 50 ألف دينار (16183 دولارا) أو أكثر فسترتفع من 35 في المئة حاليا إلى 40 في المئة عام 2025.

لا أعرف بالتحديد كيف يسيء مثل هذا القرار لإنسان عاقل، وهل يفسر ذلك سوى أن المعارضة أدمنت المعارضة. والغريب أن بعض الأصوات التي تدعي الحكمة والبصيرة سرحت بخيالها بعيدا وأجرت مقارنة بين الوضع في تونس، حيث يتوقع أن تصل نسبة التضخم إلى 7.2 في المئة في كامل عام 2024، والوضع في فنزويلا حيث وصلت معدلات التضخم عام 2013 إلى 56.2 في المئة.

الأصوات نفسها تتحدث عن انهيار في قيمة الدينار، رغم أن قيمته ثابتة تقريبا. وهنا لا بد من التذكير بأرقام ذكرت أكثر من مرة تشير إلى أن الدينار التونسي بخير قياسا بعملات أخرى بالمنطقة العربية، بل يمكن القول إنه الناجي الوحيد من فوضى “الربيع العربي”، حيث ظلت قيمته تتأرجح بين 2.7 و3 دنانير مقابل الدولار، كما أن اليورو يتأرجح بين 3 و3.5 دينار.

وما المسيء في قرار قيس سعيد الاعتماد على قروض داخلية بدلا من رهن تونس لجهات خارجية تفرض على البلاد شروطا مذلة.

إضافة إلى كل ما قيل، مشروع القانون الذي عرضه نواب بالبرلمان التونسي لا يقصي البنك المركزي من عملية اتخاذ القرارات المتعلقة بتعديل أسعار الفائدة وسياسة الصرف، بل يتعين عليه اتخاذ مثل هذا القرار فقط بالتوافق مع الحكومة، أي جعله شريكا في النقاش واتخاذ القرار.

البنك المركزي عقل الدولة التونسية، وقرطاج قلبها، وتونس تحتاج للاستمرار والنمو إلى العقل والقلب معا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى