أطلق الرئيس الرواندي بول كاغامي (66 عامًا) -الحاكم الفعلي للبلاد منذ ثلاثة عقود- في يوم السبت 22 يونيو 2024م، حملته الانتخابية لخوض انتخابات الرئاسة (المقرر إجراؤها في شهر يوليو الجاري بالتوازي مع الانتخابات البرلمانية في التوقيت نفسه للمرة الأولى في تاريخ البلاد) مرشحًا عن الجبهة الوطنية الرواندية، وهي الانتخابات التي لا ينافسه فيها سوى فرانك هابين F. Habine (47 عامًا) من حزب الخضر الديمقراطي Democratic Green Party، والمرشح المستقل فيليب مبايمانا Philippe Mpayimana (54 عامًا).
ورفعت حملة كاغامي، التي انطلقت من مقاطعة موسانزي Musanze في شمالي البلاد في الأيام الأخيرة من يونيو، شعار ضمان تنمية شاملة لكلّ المواطنين الروانديين “دون تَرْك أحدهم متأخرًا”.
وتمكَّن الرئيس كاغامي، مع قُرْب موعد الانتخابات -منتصف يوليو الجاري-، من إحكام قبضته على مُجمل مظاهر الحملات الانتخابية (حيث تمكَّنت الجبهة من حشد أكثر من 350 ألف متظاهر مُؤيّد لكاغامي في جامعة رواندا University of Rwanda نهاية يونيو الماضي)، فيما عانَى المرشحان الآخران من محدودية مساحة تحرُّكهما وتدنّي مظاهر الحشد الانتخابي لهما على خلفية ضوابط تنظيمية صارمة إلى جانب “الاستقطاب السياسي” الذي تُحقّقه الجبهة منذ سنوات، وحرم الأصوات المعارضة من قُدرتها على حَشْد قواعد شعبية داعمة.
كاغامي ورؤية 2050: ديناميات المسار الأوحد
لا يمكن فصل برنامج كاغامي الانتخابي لنظام حُكمه -حال تولّيه قيادة البلاد في الأعوام السبعة المقبلة- عن مجمل ما سبق أن وضعته الجبهة الوطنية الرواندية (التي تضم تحالفًا قويًّا مكونًا من ثمانية أحزاب رواندية، تضمن واقعيًّا حصول كاغامي على الأغلبية مسبقًا في الانتخابات التي وصفتها منافذ إعلامية غربية “بالاستعراض” السياسي فحسب)، مما أطلقت عليه “رؤية رواندا 2050م”؛ التي تهدف إلى “تحقيق تنمية مستدامة وجودة حياة أفضل لجميع الروانديين، وتمت صياغتها بالفعل مطلع العام الجاري، وحددت برامج عملها في قيادة البلاد للأعوام الخمسة المقبلة ضمن الرؤية ذاتها. فيما لم يغب عن نظر المراقبين تبنّي كاغامي رؤية “إفريقية” للديمقراطية تنتقد في جوهرها ما وصفه الأخير بـ”تبني الدول الغربية لمعايير مزدوجة” نحو الديمقراطية، وهو نَقْد طالما ردّده قادة أفارقة مثل الرئيس الزيمبابوي الراحل روبرت موجابي، والأوغندي الحالي يوري موسيفني، في سياق مواجهة الضغوط الغربية المتكررة.
وتشير أغلب التوقعات إلى حسم كاغامي الانتخابات الرئاسية بنسبة تفوق 90% على أقل تقدير، (وهي النسبة التي لم تقلّ منذ انتخابه رئيسًا للمرة الأولى قبل أكثر من 20 عامًا في العام 2003م)، ودلَّت على ذلك مؤشرات لافتة بعدم وجود دعاية انتخابية تُذْكَر لمنافسيه في العاصمة كيجالي حتى الأسبوع الأول من يوليو (إلى جانب ملاحظة وجود كثافة مطلقة للحملات الانتخابية لمرشحي المجلس النيابي المنتمين للجبهة الوطنية، مقابل غياب شبه كامل للمرشحين خارجها، ومن بينهم حزب الخضر الذي لم يَنَلْ في دور الانتخابات البرلمانية السابقة في العام 2018م سوى مقعدين فقط).
ويعزّز نظام كاغامي صورته “الديمقراطية” عبر تبنّي حزم من السياسات التي تُواكب مسار الديمقراطية “الغربية” ومصطلحاتها الرئيسة؛ ومن ذلك تكريس التمكين السياسي للمرأة والشباب (وهي بلد شاب؛ إذ تمثل نسبة الشباب المسجَّل في قوائم الانتخابات إلى إجمالي الناخبين أكثر من الثلث، وتحديدًا 3.7 مليون شاب من إجمالي 9.5 مليون ناخب مسجل، فيما لا يتجاوز عدد سكان رواندا 14 مليون نسمة، يمثل مَن هم دون سنّ 30 عامًا نسبة 70%)، واتضح ذلك في ارتفاع حصة النساء في البرلمان الرواندي إلى أعلى نسبة إفريقيًّا؛ إذ حصلت المرشحات في الانتخابات السابقة على 24 مقعدًا من إجمالي مقاعد البرلمان البالغة 80 مقعدًا. كما تعهدت الحكومة بتيسير عمل المراقبين الجانب للانتخابات، وتوفير تسهيلات لوجستية لأكثر من 260 مراقبًا .
لكنَّ الاتهامات باتت تطال كاغامي ونظامه في الآونة الأخيرة بارتكابه انتهاكات واضحة في ملفات حقوق الإنسان، وملاحقة المعارضين السياسيين (وصولًا إلى تصفية عدد من هؤلاء المعارضين خارج رواندا حسب تقارير متكررة لعناصر المعارضة الرواندية في الشهور الأخيرة)، عوضًا عن دلالات بقاء كاغامي في قيادة البلاد منذ العام 1994م، واتباعه سياسات خارجية “عدائية” بشكل لافت، لا سيما تجاه جارته الكبيرة جمهورية الكونغو الديمقراطية؛ مما يعني أن فوزه المرتقب في الانتخابات سيعزّز بشكل كبير من فرص التوتر في وسط إفريقيا وإقليم البحيرات الكبرى، وفرص اندلاع مواجهات مباشرة بين كيجالي وكينشاسا (وهما محسوبتان على القوى الغربية بشكل تقليدي لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية).
الديمقراطية الرواندية: لا جديد!
اعتبر بول كاغامي في أكثر من مناسبة أن لبلاده تجربة ديمقراطية فريدة تُؤهّلها تمامًا لنجاح الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة (14-15 يوليو المقبل) التي سيُصوّت فيها نظريًّا تسعة ملايين ناخب مسجَّل في قوائم الناخبين، ويتوقع بشكل حتمي فوز كاغامي (رئيس البلاد رسميًّا منذ العام 2000م) على منافسيه هابينيزا ومبايمانا وبأغلبية ساحقة، كما جرت العادة في الانتخابات الثلاثة السابقة.
لكن الأسابيع الأخيرة قبل الانتخابات المرتقبة شهدت ممارسات إقصائية واضحة لمرشحين آخرين وأبرزهما برنارد نتاجاندا B. Ntaganda وفيكتوري انجابيري Victoire Ingabire بحجة رفض المحاكم الرواندية إلغاء الإدانات السابقة بحق عددٍ منهم بتُهَم تَحُول بينهم وبين خوض الانتخابات الرئاسية تحديدًا. كما تعنَّتت مفوضية الانتخابات في مسألة ترشح المعارضة ديان رويجارا Diane Rwigara بحجة فَشلها في تقديم بيان سجِلّها الجنائي والحصول على توقيع 600 مواطن رغم واقع أن رويجارا (وهي ابنة رجل الصناعة البارز أسينابول رويجارا Assinapol Rwigara الذي عُرف عنه أنه واحد من أبرز مَن موَّلُوا أنشطة الجبهة الوطنية الرواندية) قد اعتقلت بتُهَم ملفقة بالتزوير من أجل حرمانها من خوض انتخابات العام 2017م، ثم تم تبرئتها من تلك التهم لاحقًا.
ويتَّضح من تلك السياسات الإقصائية، حتى ضد مرشحين لا يتوقع تحقيقهم إجماعًا وطنيًّا ولو بنِسَب تُهدِّد حسم النتيجة لصالح كاغامي، نزوع نظام الأخير وديمقراطيته إلى استباق أيّ “تهديدات” سياسية، ووأدها في مَهْدها، ومِن ثَم استمرار إحكام القبضة المحكمة على مجمل مسار السياسة في ذلك البلد الإفريقي الذي بات يلعب أدوارًا خارجية تفوق حجمه أضعافًا مضاعفة، وباتت طرفًا مؤثرًا في اضطرابات إقليمية خطيرة وشريكًا في سياسات أوروبية- أمريكية تخصم بالضرورة من سيادة العديد من دُوَل القارة وشعوبها (مثل: مشروع استقبال اللاجئين المُرحَّلين من بريطانيا في سابقة رسمية يمكن أن تنتهجها دولٌ أوروبية أخرى).
وتشير كافة المؤشرات الموضوعية إلى أن نموذج الديمقراطية الرواندية هو مجرد واجهة جديدة لنظام ديكتاتوري بامتياز يستلب لصالحه كافة ديناميات العملية السياسية والاقتصادية، وربما الاجتماعية بحُجَّة مشروعية ما بعد الحرب الأهلية وتجربة الإبادة في رواندا على الأقل حتى العام 2050م بحسب رؤية الجبهة الوطنية الرواندية، وأن تحقيق معدلات نموّ مرتفعة رقميًّا يُبرّر استمرار حكم الجبهة، وتعميق أدوات سيطرتها على البلاد ومستقبلها، ونفي أيّ احتمالات لصعود قوى سياسية منافسة يمكنها على الأقل لعب دور المعارضة الوطنية، وهو من أبجديات النظم الديمقراطية التي يدّعي نظام الجبهة وكاغامي تقديمهما نموذجًا فريدًا لها.
كاغامي ومتلازمة نابليون: ما بعد الانتخابات؟
في عالَم آخِذ في الابتعاد عن مفاهيم السياسات الدولية التقليدية، والتورط في الخلط المتعمد لمفاهيم الحكم والديمقراطية واحترام المؤسساتية وصيانة حقوق الإنسان والشفافية السياسية، وغيرها، وما يعنيه ذلك من تداعيات صادمة في أرجاء القارة الإفريقية؛ تظهر زعامة الرئيس بول كاغامي أسيرة استئثار مطلق بالسلطة السياسية (وإن تحت لافتة تحقيق “إجماع شعبي” لم يمكن اختباره عمليًّا)، ومراوغة التطلعات الشعبية المشروعة بنظام سياسي “سليم” (وفق التصورات التقليدية للديمقراطية كوسيلة لتمثيل مصالح الشعب وتصوراته)، عبر تبنّي مجموعة من السياسات الداخلية والخارجية التي تتم صياغتها بالأساس في دوائر “النظام الحاكم” دون أدنى قَدْر من المساءلة الشعبية (بعد تأمين تجاوز الاستحقاقات الانتخابية)، وصولًا إلى التورُّط في أزمات مع دُوَل جوار، أو تمرير سياسات غربية في إفريقيا رغم كونها سياسات مثيرة للخلاف (مثل استقبال مجموعات من اللاجئين المُرحَّلين من بريطانيا ضمن ترتيبات بعيدة الأجل، ومُعزّزة لفكرة تورُّط نظام كاغامي في انتهاكات منهجية لحقوق الإنسان؛ رغم ادعاءاته بخلاف ذلك).
وهكذا يُرسي نظام كاغامي ما يصفه معارضون روانديون “بالديمقراطية الرواندية” Rwandan-style democracy وفق معاييره الخاصة، والتي يمكن تتبُّعها منذ بَدْء تقلد كاغامي قيادة البلاد بتفويض من الجبهة في العام 1994م؛ استنادًا لدَوْره المهم في إنهاء الحرب الأهلية في البلاد. كما تبرز لغة كاغامي “الاستعراضية” في الحملة الانتخابية الحالية جنوحًا إلى إشباع ميول شخصية كامنة وتعزيز حالة “قيادة” مظهرية مفرطة، والتي لا تأتي استثناءً عن مجمل خطاب كاغامي منذ صعوده السياسي وحرصه على تصدير صورته القيادية وثقته الكاملة بكافة خياراته رغم فشلها في أكثر من محكّ إفريقيًّا وداخليًّا مِن قبيل ملف إصلاح مؤسسات الاتحاد الإفريقي ومواجهة الفساد والتدخل في العديد من مناطق الأزمات في القارة التي تعاني من مجموعة متشابكة من مشكلات الإرهاب والفقر والفساد مثل موزمبيق وبنين والجابون وجمهورية إفريقيا الوسطى، وغيرها.
وأخذًا في الاعتبار تماهَى الكثير من القادة الأفارقة مع “نمط كاجامي” (على نحوٍ يكشف عن عُمْق أزمات العديد من دول القارة وضيق أُفق تحقيق إصلاحات سياسية واقتصادية حقيقية في المستقبل القريب)؛ فإن نجاح كاغامي (وغيره) في مواصلة الاستبداد والاستئثار بالسلطة (ستصل مدة حكم كاغامي حال نجاحه في قيادة البلاد في فترة رئاسية رابعة إلى قرابة أربعة عقود)، بحجة حماية مصالح الشعب والدولة، وتحول من صفوف المواطنة العادية ونضالاتها إلى ممارسة السلطوية باسم “الجماهير”، ثم الاستعلاء “العنصري” الكامل فوق تلك الجماهير في نهاية المطاف، في تناصٍّ أقرب لشخصية نابليون في رواية جوروج أوريل الشهيرة “مزرعة الحيوان”، وهو الأمر الذي يتضح عمليًّا في تصريحات كاغامي الأخيرة أمام تجمع انتخابي (2 يوليو) بأن منتقديه لم يألفوا سياسة التفرد والوحدة والسلامة (التي ينتهجها هو وجبهته)، وما اعتبره أن حكمه يمثل تجربة لدول إفريقية وغير إفريقية لا سيما أن رواندا مرت بمرحلة تسببت فيها قياداتها في تدمير البلد، وأن حُكمه كرَّس مرحلة إعادة بناء البلاد؛ ما يعني استحقاقه مواصلة قيادة البلاد في عقد رابع (ودون أي تعهُّد بتغييرات حقيقية تُذْكَر سوى كلام عام عن رؤية رواندا 2050م)، وعدم أهلية أي رواندي لهذه المسألة في صفوف الشباب أو النساء على سبيل المثال.
خلاصة:
تُعدّ الانتخابات البرلمانية والرئاسية الرواندية مسألة محسوم توقعاتها بفوز الجبهة الوطنية الرواندية والرئيس الحالي بول كاغامي بأغلبية ساحقة في المسارين. وتبقى مخرجات تلك الانتخابات مجرد تأكيد على طبيعة نظام كاغامي وسياساته وكذلك مستقبله ومستقبل رواندا التي تلعب أدوارًا بالغة الأهمية في العديد من الملفات المُلحَّة في القارة الإفريقية (سلبًا أم إيجابًا، وحسب تصورات مصالحها الوطنية التي يجب أَخْذها في الاعتبار)، ويمكن أن ينسحب ذلك التحليل على قضايا تسعى رواندا لأن يكون لها دور رائد في التعامل معها مباشرة مع العديد من القوى الغربية نيابةً عن القارة الإفريقية مثل مكافحة الإرهاب، والتعاون مع قوى إقليمية أو دولية متوسطة تسعى لنفوذ أكبر في القارة من بوابة رواندا، أو إثارة تهديدات تمسّ دول الجوار مباشرة.