مرة أخرى تضطلع وكالة الأنباء الرسمية الجزائرية بتبليغ رسالة السلطة إلى الرأي العام المحلي والخارجي، لكن يحتاج قارئ البرقية إلى جهد مضاعف لتفكيك طلاسمها، أو لإجراء مقارنة بين محتوى النسخة العربية والفرنسية، فيحتار أيّا منها سيتبنّى لتحليل ما ورد بين سطورها، ولو أن الفكرة التي اختصرها العنوان: “تبون.. الاستقلال الإستراتيجي”، هي أن عودة الجزائر باتت تزعج البعض.
البرقية التي خرجت عن تقليد عمل الوكالة الإخبارية، خاطبت الرأي العام الخارجي، من خلال التأكيد على نهج السلطة بقيادة الرئيس عبدالمجيد تبون، في إدارة الشأن الدبلوماسي والحضور الإقليمي والدولي بجرأة غير مسبوقة، وحتى لو كان مكلفا ومزعجا للبعض.
كانت جريئة إلى درجة نسب “العودة القوية” إلى الرئيس تبون، غير الآبه بـ“البريستيج” الدولي على حد تعبيرها، حتى ولو انتقد أداء من سبقوه في هذا المجال، وهذا لم يحدث في مسار رؤساء الجزائر السابقين، فرغم الخصومة وحتى الانقلاب على بعضهم البعض لم يحدث أن تجرأ أي أحد منهم على سلفه واتهامه بالتقصير.
الرسالة كانت واضحة وجريئة في الدفاع وتبني الخط الدبلوماسي الذي تتبناه السلطة الجزائرية في السنوات الأخيرة، فهي لا يهمها أن توصف بـ“المتهورة” و“المتشنجة” أو “المتعصبة”، لأن ما يهم أصحابها هو الدفاع عن مصالح البلاد ومجالاتها الحيوية ومبادئها الثابتة، وهو ما بات “يزعج” و“يقلق” البعض حسب الوكالة الرسمية.
ما يسوق للجزائر الجديدة في الدوائر السياسية والإعلامية الموالية للسلطة، ليس بالضرورة ما هو عند الشارع الجزائري المهتم بالجبهة الداخلية
وهو ما عبرت عنه بالقول “بالتأكيد أطلقت بعض الانتقادات التي وصفتها بالسطحية والمتوترة والمباشرة، فإن الدبلوماسية الرئاسية لم تفهم في جوهرها ولا حتى في رؤيتها على المدى الطويل. وفي وقت تأكيد القوة حيث أصبح استعراض العضلات ضرورة وليس موقفا فحسب، فإن الدفاع عن بقاء دولة وسيادتها وهامش مناورتها ليس بالمهمة السهلة”.
وبمثل هذه المفردات يكون الرد قد جاء على لسان وكالة الأنباء الحكومية، على انتقادات طالت الأداء والحضور الدبلوماسي للجزائر في السنوات الأخيرة، وما كان يوصف بالتشنج والتذبذب المثير للأزمات والفتور مع المحيط الإقليمي، تأكد الآن أنه يدخل في صلب إستراتيجية دولة، لا تهمها هذه المشكلة هنا، وتلك الأزمة هناك، بقدر ما يهمها “سيادتها واستقلاليتها”.
ودفاعا عن حصرية “العودة القوية” للرئيس تبون، ذكرت البرقية، أنه “ومنذ ظهور الجزائر الجديدة، التي تبنت أسلوب القطيعة المعتمد من قبل رئيس جمهورية ثابت على المبادئ وشجاع في مواقفه وبراغماتي في أعماله، كسرت الدبلوماسية الجزائرية أغلال الجمود. فمن رد الفعل، أصبحت استباقية دون الاكتراث لما يقولون لأنه من خلال محاولة إرضاء القوى الغربية والشرقية، لم تحصل الجزائر على استثمارات أجنبية مباشرة ولا على التزامات ولا على الاعتراف ولا على تحالفات إستراتيجية ولا حتى على الاحترام الذي تستحقه كأمة”.
البرقية قدمت الرئيس تبون في ثوب الرئيس الذي أنهى إنجازه الدبلوماسي والإقليمي، وأوحت للجزائريين بأن الحفاظ وتعزيز مثل هذه المكاسب، سيكون مع الرجل من خلال تجديد العهد معه في الانتخابات الرئاسية المنتظرة بعد نحو تسعة أشهر، وهو طرح غير واقعي في ظل غياب الحساب والمحاسب.
وما يسوق للجزائر الجديدة في الدوائر السياسية والإعلامية الموالية للسلطة، ليس بالضرورة ما هو عند الشارع الجزائري المهتم بالجبهة الداخلية، وعند المتابعين والمهتمين بالشأن الإقليمي والدولي، فلدى هؤلاء رأي مخالف يرى أن الحصيلة تبقى دون تطلعات الجزائريين ودون خطاب الجزائر الجديدة التي يتوق إليها الجميع.
اللوبيات ومجموعات الضغط لا تريد رؤية انطلاق أو استكمال أي مشروع ونجاح أي إصلاح.. يريدون الجمود فقط وأن تكتفي الجزائر بالدور الثانوي الذي تمنحها إياه الجيوسياسية العالمية
تشير المعطيات إلى أن قوى منافسة أو خصوما، لا يروقهم إلا رؤية الجزائر في ثوب الرجل المريض، أو الجثة التي لا تحيا ولا تموت، ولذلك يسود الاعتقاد لديهم بأن المثالية التي يروجون لها، تمنحهم صلاحية الحجر أو الوصاية على الموقف الجزائري، وهو ما يريد القطع معه، لكن بأي طريقة، هل بالاندفاع والمواجهة أم بالحجة والإقناع.
الوكالة الحكومية أوحت بانتفاضة دبلوماسية جزائرية، لكنها لم توضح ما إذا كانت حصيلة العهدة الانتخابية للرئيس تبون، أم أنها برنامج عهدة رئاسية قادمة، خاصة وأن المسألة عبرت عن امتعاض من خيبات متراكمة على مدار عقدين من التحالف مع الغرب ومع الشرق، لكن العائدات كانت شحيحة، مما يطرح التساؤل عن هوية المجال الحيوي الذي ترومه الجزائر، وعن مدى صمودها وقدرتها على صيانة ما أسمته البرقية بـ“الاستقلال الإستراتيجي”.
ويبقى اللبس بين الاعتراف بالخطأ وبين التنصل من الماضي القريب، مثيرا للجدل حول مقاربة البناء على ما هو موجود أم تهديمه تماما، وهو ما وصفته الوكالة بأنه “وهم القوة التي تباهى بها النظام القديم على مدار عقدين من الزمن”، بينما “الواقع المؤلم لموازين القوى الدولية لم يكن في صالح ظهور جزائر مسموعة وذات حضور ووطنية، إلى درجة أن الجزائر فقدت نفوذها وأصبحت مجرد نمر من ورق”.
ويبدو أن السياق الذي أوردته البرقية، لا يريد النظر إلى الخلف بعد أن رسم معلما له، ما دامت قد ذكرت أن “هذا العداء الخارجي، الذي يتداوله أنصار الجمود داخليا، تلك اللوبيات ومجموعات الضغط التي لا تريد رؤية انطلاق أو استكمال أي مشروع ونجاح أي إصلاح وإحداث أي تغيير وبعث أي ديناميكية. فإنهم يريدون الجمود فقط وأن تكتفي الجزائر بالدور الثانوي الذي تمنحها إياه الجيوسياسية العالمية، دون أن تنطق بكلمة، دون أن تحتج ودون إعلاء صوتها”.