الانتخابات الأوروبية والتحديات الجيوسياسية
حلم الوحدة الفيدرالية بين دول أوروبا، الذي تشكل في الخمسينات بسبب مآسي الحروب والمواجهات بين الدول القومية، بدأ في التراجع؛ لأن عدداً كبيراً من شعوب أوروبا الغربية لا يدعم سياسة الاتحاد الأوروبي القائمة على التمدّد نحو دول شرق القارة
تشهد الدول الأوروبية مع بداية شهر يونيو/ حزيران، وفي تواريخ متقاربة، انتخابات لاختيار نواب البرلمان الأوروبي في سياق ظروف قارية ودولية بالغة الحساسية والتعقيد، ويرى المراقبون أن هذا الاقتراع يمثل رهاناً جيوسياسياً وموعداً مفصلياً بالنسبة للعديد من القوى السياسية في أوروبا، لاسيما الأحزاب القومية التي ترفض سياسة الوصاية التي تمارسها مؤسسات الاتحاد الأوروبي على الدول الوطنية في القارة العجوز. وتشير نتائج سبر الآراء المتعلقة بمواقف مواطني دول الاتحاد من الانتخابات، إلى أن أكثر من ثلثي المستجوبين عبّروا عن عزمهم المشاركة في الانتخابات الأوروبية؛ من أجل التأثير مستقبلاً في القرارات التي يمكن أن تتخذها الدول الأوروبية بخصوص أهم التحديات الاقتصادية والسياسية، وفي مقدمتها المواجهة المحتملة مع روسيا.
ويمكن القول، إن الغموض والتداخل الذي يميّز جغرافية أوروبا ينعكس على سياستها وعلى حضارتها وقيّمها، كما يشير إلى ذلك العديد من الكتاب، فأوروبا الغربية ليست هي أوروبا الشرقية التي تطرح حدودها مع روسيا إشكاليات معقدة بالنسبة لانتماءات دول مثل أوكرانيا وتركيا، كما أن الانتماء الجغرافي لروسيا يطرح تساؤلات جيوسياسية فيما يتعلق بالهوية السياسية والثقافية لهذا البلد، وفضلاً عن ذلك، فإن أوروبا تنقسم من الناحية الدينية بين مناطق كاثوليكية ومناطق بروتستانتية وأخرى أرثوذوكسية في الشرق، وبالتالي فعندما نتحدث عن ميراث الحضارة الأوروبية فغالباً ما نشير إلى مرجعيات بعينها ترتبط بالتراث الإغريقي والروماني بالدرجة الأولى، وبالتراث الجرماني بدرجة أقل، أما المكوِّنات السلافية لأوروبا فما زالت تطرح إشكالات جدية بالنسبة للهوية الأوروبية، وبالنسبة لمؤسسات الاتحاد التي تشرف على انتخابات شهر يونيو/ حزيران.
ومن الواضح أن خوف مواطني دول أوروبا على مستقبلهم ورغبتهم في تعديل سياسات دولهم بشأن مسار الاتحاد الذي يربطهم، جعل أكثر من 71 في المئة من الأوروبيين المستجوبين يفصحون عن رغبتهم في المشاركة في هذا الاقتراع الذي سيسمح بانتخاب 720 نائباً في البرلمان الأوروبي، ما يعني أن نسبة المشاركة سترتفع بعشر نقاط، مقارنة بانتخابات 2019، وبخاصة في شمال أوروبا حيث يشعر سكان هذه المنطقة أنهم معنيون بتحديد المعالم التي توجِّه السياسة الأوروبية المشتركة، من منطلق أن دولهم تُسهم بالقسط الأوفر في تمويل ميزانية الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي يشكل عبئاً كبيراً على دافعي الضرائب.
ويذهب المراقبون إلى أن الاهتمام اللافت الذي تحظى به هذه الانتخابات يأتي في مرحلة مفصلية بالنسبة لشعوب القارة الأوروبية، يهيمن عليها الصراع مع روسيا، ويقوم فيها بعض القادة الأوروبيين بقرع طبول الحرب، والتهديد بنقل قوات برية أوروبية نحو خطوط المواجهة في أوكرانيا، إضافة إلى السياق الدولي المضطرب الذي يتميّز بالعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وتأثيراته الواضحة في الرأي العام الأوروبي، وتزايد حدّة المنافسة الاقتصادية مع الصين، وتراجع ثقة المستثمرين بمستقبل الاقتصاد العالمي، وتخوّفهم من انهيار محتمل للعملات الكبرى، مثل الدولار واليورو، ولجوء العديد من الدول إلى شراء كميات غير مسبوقة من الذهب.
ويرى المراقبون أيضاً، أن الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها الدول الأوروبية، ستجعل من هذه الانتخابات اقتراعاً عقابياً للعديد من الحكومات، التي فشلت في تسيير الشأن العام، وتسبّبت في انتشار ملحوظ لمظاهر الفقر، وفي تراجع القدرة الشرائية للمواطنين، ومن المنتظر، بناءً على هذه الظروف الاقتصادية الصعبة، أن تحصل الأحزاب اليمينية على عدد معتبر من المقاعد، لاسيما في غرب أوروبا، كما أن ملف الهجرة سيكون حاضراً بقوة في هذه الانتخابات؛ بسبب تزايد مشاعر الخوف من الأجانب، وانتشار الخطاب الإعلامي الذي يحمِّل المهاجرين جزءاً كبيرا من المسؤولية عن التعثر الاقتصادي وعن تراجع الأمن.
ويؤشر هذا الفوز المحتمل للأحزاب اليمينية في السياق نفسه، إلى تزايد انتشار ظاهرة الانغلاق الهوياتي؛ بسبب اعتراض قسم واسع من المواطنين الأوروبيين على سياسات بروكسل بشأن ملف الهجرة، ورفض دول مثل تشيكيا وبولندا قرارات الاتحاد الأوروبي بشأن تقاسم الأعباء المرتبطة بمواجهة تدفق أعداد هائلة من المهاجرين على السواحل الجنوبية للقارة، ومن ثم فإن التوقعات تشير في مجملها إلى أن أحزاب اليمين الوسط ستترك مكانها في البرلمان المقبل لتشكيلات غير متجانسة تقودها الأحزاب اليمينية المتشددة والمجموعات السياسية المناهضة لسياسة الحكومات الأوروبية، بعد أن بدأ الحلم في إقامة مجتمع أوروبي مزدهر ومتماسك، في التراجع تاركاً مكانه لمشاعر الخيبة والإحباط.
لقد بدأ إذاً، تراجع سيادة الدول الأوروبية لصالح مؤسسات الاتحاد الأوروبي، يثير الكثير من القلق لدى المواطنين الأوروبيين؛ بسبب الإجراءات الملزمة المتعلقة بحجم الدين العام وسياسة الإنفاق الاجتماعي، وبحرية تنقل الأشخاص في سياق اتفاقية شنغين التي قيل إنها مسؤولة عن الكثير من الحوادث الأمنية في دول مثل فرنسا. وعليه فإن حلم الوحدة الفيدرالية بين دول أوروبا، الذي تشكل في الخمسينات بسبب مآسي الحروب والمواجهات بين الدول القومية، بدأ في التراجع؛ لأن عدداً كبيراً من شعوب أوروبا الغربية لا يدعم سياسة الاتحاد الأوروبي القائمة على التمدّد نحو دول شرق القارة، وهذه الجوانب كلها تمثل معطيات جيوسياسية واقتصادية تجعل من انتخابات شهر يونيو حدثاً أوروبياً استثنائياً.