أمريكا

الانتخابات الأمريكية.. هل ستكون الأخيرة؟

تراجع الديمقراطية، تآكل الديمقراطية، نهاية الديمقراطية، موت الديمقراطية.. كلها عناوين لمقالات ودراسات وأبحاث لم يكن أحد ليصدقها قبل ربع قرن، ولكننا اليوم ونحن ننتظر نتيجة الانتخابات الأمريكية في عام 2024 نقترب من لحظة الحقيقة، ويمكننا تصديق بعض كل ما كان ولا يزال يقال عن قرب نهاية الديمقراطية بشكلها وأسلوبها الغربي، ولو حدث ذلك فسوف لا تذهب الديمقراطية وحدها كما لم يذهب النظام الشيوعي وحده، بل ذهب ومعه دولة كبرى وقوة عظمى في زمانها كان اسمها الاتحاد السوفييتي

“لا تزيد الديمقراطية عن كونها حكم الغوغاء حيث يمكن لواحد وخمسين في المائة من الشعب استيلاب حقوق التسعة وأربعين في المائة الآخرين” (توماس جيفرسون– أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية وثالث رئيس أمريكي)

هذا هو رأي واحد من أهم الرموز السياسية في أمريكا على مدار تاريخها، وبكل تأكيد فقد جاء إلى السلطة بالانتخابات ورحل عنها بعد أن قضى فترتين رئاسيتين، وهو حكم لا يزال ساريا على ما نشهده في الدول الديمقراطية التي يتم فيها شق الرأي العام إلى نصفين؛ يتربص كل نصف بالنصف الآخر ويعد عليه أنفاسه منتظرا الثأر منه. وربما يرى البعض في عالمنا الثالث أن هذه ميزة وقد أراها أنها مثلبة وقبح، رغم إيماني بالشورى التي تحترم عقل وقلب ودين وروح المسلم؛ وليست الديمقراطية التي تدغدغ المشاعر وتنفخ الجيوب من أجل الحصول على الصوت الانتخابي حتى في أعرق الديمقراطيات.

يلعب المال السياسي دورا كبيرا في الديمقراطيات الغربية كما تلعب المؤسسات القديمة أو الدولة العميقة دورها في هندسة الانتخابات، وما جرى في أمريكا مؤخرا من إبعاد للرئيس الجالس في مقعد الحكم جو بايدن عبر انقلاب ناعم وترشيح ذات الدولة العميقة لمرشحة جديدة (كامالا هاريس) لم يُذكر لها دور إيجابي في الحياة السياسية، بل على العكس شاركت في جريمة الابادة الحماعية والدفاع عن جرائم الحرب التي يرتكبها الصهاينة ضد شعب فلسطين.. ما جرى هو انقلاب على الديمقراطية قبل أي شيء آخر، وبالتالي فمن المتوقع أن ينقلب هؤلاء على نتيجة الانتخابات المقبلة.

في الخامس عشر من تشرين الأول/ نوفمبر 2020، لم يعترف دونالد ترامب بنتيجة الانتخابات التي جاءت بجو بايدن رئيسا جديدا، لم يُقر أو يعترف بخسارته، وقال بالحرف الواحد في تغريدة نشرها: “فاز (بايدن) فقط في نظر الإعلام المضلل. لا أقر بأي هزيمة! الطريق طويل أمامنا. هذه الانتخابات مزوّرة”.

وهذا هو أجرأ تصريح قيل ضد الديمقراطية، وهو اعتراف بأنه حتى في أمريكا يتم تزوير الانتخابات، ولا يعترف أو لا يريد أن يعترف الخاسر بخسارته لشكه بل ليقينه بأنها زُورت. وظل ترامب يحارب ويواجه الدولة العميقة رغم كل الملاحقات القضائية، وقبيل الانتخابات صرح في لقاء تلفزيوني (في أيلول/ سبتمبر الماضي): “أنا والعديد من المحامين وخبراء القانون، نراقب عن كثب قدسية الانتخابات الرئاسية 2024، لأنني أدرك، أفضل من الأغلبية، الغش والخداع المتفشيين بواسطة الديمقراطيين في الانتخابات الرئاسية عام 2020. كانت وصمة عار في تاريخ أمتنا”.

يحدث هذا في أمريكا التي يتم تصويرها لنا في العالم العربي البائس على أنها جنة الديمقراطية وواحة الحريات المطلقة، فما بالك بالدول التي لا تزال في مرحلة الحضانة الديمقراطية ويفتخر قادتها بأنهم جاءوا عبر الصناديق الانتخابية ولكنهم لا يذهبون إلا عبر صناديق نقل الموتى!

في تقديري المتواضع وبعد فحص للعديد من المقالات والدراسات والأبحاث التي تنبأت بموت أو نهاية الديمقراطية الليبرالية، كما تنبأ غيرها بزوال وتفكك الاتحاد السوفييتي، يمكنني القول بأن الديمقراطية الغربية في طريقها نحو الفناء ولو تدريجيا لعدة أسباب بدأت تتضح بمرور الوقت، أذكر منها ما يلي:

1- ارتباط الديمقراطية الغربية بالليبرالية (التي تعني عندهم الحريات المطلقة)، وكما هو معلوم فالحريات المطلقة مفسدة مطلقة للإنسان الذي هو أساس الحياة وسبب وجودها، وبالتالي تم استهداف أخلاق الإنسان والمعايير الإنسانية وأصبحت كلها في مهب الريح. وليس أدل على ذلك من حالة الترويج المسعورة للفاحشة واعتبار كل نقد ضدها جريمة ضد الإنسانية.

2- ارتباط الديمقراطية بالرأسمالية بكل مفرداتها، وعلى رأسها البنوك التي أصبحت تتحكم في اقتصاد العالم كدول ومنظمات وأفراد، فأموال الناس وممتلكاتهم شبه محجوزة ولا يمكنهم التصرف فيها إلا بإذن مسبق. وتوقع الرئيس الامريكي الأسبق توماس جيفرسون أن البنوك تشكل خطرا على الحريات في أمريكا، معتبرا إياها أخطر من الجيوش المجيشة، على حد قوله.

3- ارتباط الممارسات الديمقراطية بالمال السياسي، وخير دليل هو التبرعات المشروطة التي يتم بها تمويل حملات الانتخابات عموما والرئاسية على وجه الخصوص، في أمريكا تحديدا، وهو ما يعرف بالرشاوى الانتخابية التي كان البعض يعتقد أنها حصرية في البلاد العربية ودول العالم الثالث.

إقرأ أيضا : ترامب والعرض الأخير!

4- الديمقراطية لم تنتج قرارات مستقلة للحكام، بل إنهم عادة ما يكونون تحت ضغط وفي خدمة صناع الملوك أي رجال المال والأعمال والشركات الكبرى، وبالتالي فهذه المجموعات هي من يحكم، ومن يجلس على كرسي الحكم عليه أن يتأقلم مع من يأمر وينهى، وكل الوعود الانتخابية تذهب أدراج الرياح؛ اللهم إلا تلك التي وُعد بها رجال المال والأعمال والشركات الضخمة في أمريكا والكيان الصهيوني.

5- قضية الدعم غير المحدود للكيان الصهيوني أسقطت القناع عمن يجلس فوق العرش الأمريكي، فعندما فازت حماس لم يعترف بها ساكنو البيت الأبيض لأن حماس تقاتل من أجل حرية الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الصهيوني، وهنا لا يجب الاعتراف بالديمقراطية بأي حال لأن فيها ضررا على المصالح الاستراتيجية لأمريكا، وبالتالي يتم إلقاء الديمقراطية في قاع البحر حتى لا تأتي بأي عدو أو خصم أو حتى منافس للمصالح؛ وليس فقط للرئيس الذي يتعين عليه الانصياع وليس من حقه مناقضة الأمور،

كما يجري الآن. فالعالم بما فيه محكمة الجنايات ومحكمة العدل الدولية يقرر وجود جرائم حرب وحرب إبادة وجرائم ضد الإنسانية، ومع ذلك فإن كلا من المرشحين في الانتخابات الأمريكية لا يجرؤ أو يملك إصدار قرار بوقف الحرب ولا بإدانة دولة الكيان، ولا حتى التعبير عن قلقه أو استيائه من المجازر والمذابح والحصار اليومي ضد شعب غزة.

6- غالبا ما يستخدم الدفاع عن الديمقراطية من أجل تخريبها، فقد فاز دونالد ترامب ووصل إلى الحكم لكنه رفض الاعتراف بالهزيمة في الانتخابات التالية، وهو اليوم يصمم على عدم الاعتراف بالانتخابات التي تجرى اليوم ويرى أنه إن لم يفز فسيكون هناك حمام دم، ما يعني الحرب الأهلية. وبالمناسبة هو لم يقل ذلك سرا بل علانية وبكل وضوح، وهو ما يعني أن الحزب الذي أوصله إلى السلطة يؤمن بأن الديمقراطية التي لا تأتي بمرشحه أولى بها أن تدفن أو أن يعاد النظر فيها بعد كل هذه العقود من الاستقرار على أنها أفضل وسيلة لتبادل السلطة.

تراجع الديمقراطية، تآكل الديمقراطية، نهاية الديمقراطية، موت الديمقراطية.. كلها عناوين لمقالات ودراسات وأبحاث لم يكن أحد ليصدقها قبل ربع قرن، ولكننا اليوم ونحن ننتظر نتيجة الانتخابات الأمريكية في عام 2024 نقترب من لحظة الحقيقة، ويمكننا تصديق بعض كل ما كان ولا يزال يقال عن قرب نهاية الديمقراطية بشكلها وأسلوبها الغربي، ولو حدث ذلك فسوف لا تذهب الديمقراطية وحدها كما لم يذهب النظام الشيوعي وحده، بل ذهب ومعه دولة كبرى وقوة عظمى في زمانها كان اسمها الاتحاد السوفييتي، فلعل وعسى أن تكون الانتخابات الأمريكية بداية النهاية للديمقراطية وللنظام الأمريكي ولو بعد حين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى