تونس

الالتباس اللّغوي في تونس

الالتباس اللغوي في تونس جزء من الالتباس العام الذي يهيمن على تصورات التونسيين بخصوص مستقبلهم ومستقبل أبنائهم. في ظل هذه التصورات تصبح الهوية اللغوية مسألة ثانوية أمام الدور الوظيفي للغة كجسر نحو الخارج.

فيما يستعد التلاميذ والطلبة للعودة إلى مقاعد الدراسة الشهر المقبل، أعلنت وزارة التربية التونسية الأسبوع الماضي اعتزامها إعطاء مكانة أفضل للمطالعة والمواد المعجمية وكتابة الخط العربي في مختلف المراحل التعليمية، في سياق تنبيه لها من تدنّي مستوى المهارات اللغوية في المدارس.
اهتمام وزارة التربية في محله، ولكن من غير المؤكد أن مبادرتها ستكون كافية لحل الإشكالية المطروحة وهي إشكالية متعددة الأوجه.
فالتعليم لا يرسّخ في ذهن التلميذ التونسي ضرورة إتقان العربية كتابة وقراءة بوصفها اللغة الوطنية للبلاد. وأضحى المراهقون والشبان يستعملون العامية المكتوبة بالأحرف اللاتينية في تبادلهم الرسائل القصيرة على الهاتف المحمول، فيما أضحت العربية الفصحى اللغة الرسمية للطبقة السياسية ونشرات الأخبار وليس للحياة اليومية.
لا يتقن التلاميذ في الواقع أياً من اللغات الأخرى. وهم لا يعرفون بالضبط إن كانت الفرنسية “لغة ثانية” كما درج مسؤولو التعليم على وصفها أم هي مجرد “لغة أجنبية” كما قالت وزيرة التربية منذ أيام.
هذه الحالة من الالتباس اللغوي فاقمتها مزاحمة اللغة الإنكليزية للفرنسية “كلغة أجنبية” للتواصل مع الخارج، ليس لأن المسؤولين عن المناهج التربوية قرروا ذلك، بل لأن الأجيال الجديدة وجدت في الإنكليزية ضالتها كلغة العصر.
تحسنت كفاءة الأجيال الصاعدة في استخدام الإنكليزية تدريجياً ومن دون لغط، بعدما اقتنع الشباب بأنها مفتاح البحوث العلمية والتكنولوجيات الحديثة وطريقهم إلى النجاح المهني. وقد أظهر ذلك مرة أخرى قدرة المجتمع التونسي على أن يسبق المؤسسات الرسمية في مواكبة التغييرات.
أمام الانطباع الذي نشأ لدى التلاميذ والطلبة وأوليائهم بأن المدارس العمومية لم تعد تفي بالحاجة في تلقين مختلف المواد بما فيها اللغات، اعتقد الكثيرون أنهم وجدوا ضالتهم في المدارس الخاصة وتلك المتفرعة من مؤسسات تعليمية أجنبية، وذلك رغم رسومها المرتفعة. فهذه المدارس تتميز بأنها ليست رهينة تذبذب المناهج الرسمية أو مزاجية النقابات وإضراباتها المتكررة.
بالفعل وفّرت المدارس الأجنبية والخاصة نتائج أفضل من المدارس العمومية في عدد من المجالات، ولكنها عمّقت الأزمة اللغوية عوض أن تساهم في حلها. فالمؤسسات التعليمية الأجنبية والخاصة، وإن كانت ملزَمة نظرياً بضوابط بيداغوجية أساسية تحددها الدولة، فهي لا تهتم اهتماماً كافياً بتدريس العربية، ما يفضي بالتلاميذ في كثير من الحالات إلى نوع من الغربة اللغوية والثقافية. الكثير من تلاميذ المدارس الأجنبية والخاصة يجدون صعوبة في القراءة والكتابة باللغة العربية، وإن كانوا يتقنون الفرنسية والإنكليزية أفضل من تلاميذ المدارس العمومية.
واللافت أن هذا التمشي لا يلقى اعتراضاً من معظم الأولياء الذين لا يبدو تفكيرهم مُنصباً على تعزيز حظوظ الخرّيجين في النجاح والتألق أو احتلال المراكز في سوق الشغل في بلادهم، بل على تهيئتهم للالتحاق بالجامعات الأجنبية بعد المرحلة الثانوية وفتح الأبواب أمامهم للهجرة إلى الخارج.
لا يجد الكثير من خريجي المدارس الأجنبية والخاصة بديلاً من ذلك. فمهما كانت طموحاتهم فإن نقص الكفاءة في اللغة العربية يجعل من الصعب عليهم العمل في مؤسسات الدولة أو التأقلم بنجاح في مجتمعهم أو فهم ما يدور من حولهم فهماً جيداً.
يتراءى للمرء أن التلميذ والطالب في هذا النوع من المدارس والمعاهد يهاجر أحياناً منذ جلوسه على مقاعد الدراسة، مدفوعاً باقتناع الأولياء بأن مساعدة أبنائهم على الهجرة هي السبيل لضمان مستقبلهم.
الالتباس اللغوي في تونس جزء من الالتباس العام الذي يهيمن على تصورات التونسيين بخصوص مستقبلهم ومستقبل أبنائهم. في ظل هذه التصورات تصبح الهوية اللغوية مسألة ثانوية أمام الدور الوظيفي للغة كجسر نحو الخارج.
وحتى بالنسبة إلى من يتلقون تعليمهم في المدارس العمومية يتابع الكثيرون منهم دورات تدريبية على اللغات الأجنبية في المراكز الأجنبية والخاصة. بإمكانهم أيضاً الترشح لنيل شهادات الثانوية العامة الأجنبية عن طريق الامتحانات المفتوحة لعموم التلاميذ، ومن بينها بالخصوص امتحان البكالوريا الفرنسية.
من هذا المنطلق لم يفاجئني الاستطلاع الأخير للبارومتر العربي الذي وضع التونسيين في مقدمة الشعوب العربية التي تفكر في الهجرة.
أظهر الاستطلاع أن نسبة التونسيين والتونسيات الذين تخامرهم فكرة الهجرة إلى الخارج زادت من 22 في المئة سنة 2011 إلى 46 في المئة حالياً. بل هي تبلغ 60 في المئة بالنسبة إلى الذين يتجاوز مستوى تعليمهم المرحلة الثانوية.
من الطبيعي أن يتساءل المرء: لماذا هذه النسبة المرتفعة من الحالمين بالهجرة مقارنة ببقية بلدان المنطقة، وهل الظروف المعيشية في تونس هي الأسوأ في العالم العربي؟ لا ليست بالضرورة كذلك. ولكن طموح التونسيين الجامح إلى مستوى معيشي أفضل وانفتاحهم على العالم يجعلان صبرهم على أوضاعهم ينفد بسرعة أكثر من غيرهم.
الخطر في ظل هذا الوضع ليس فقط أن تتحول مدارس تونس إلى مراكز لإعداد التونسيين والتونسيات للهجرة إلى الخارج، بل أن تصبح نخبة من شباب البلاد غير قادرة على التأقلم أو العيش في بلادها حتى إن هي أرادت ذلك بعد التخرج.
في ظل المراجعات الجارية لا بد من أن يبحث المسؤولون عن قطاع التعليم في كيفية جعل المناهج التربوية وسيلة لنحت الهوية اللغوية لا لتعميق الالتباس حولها.
وعوضاً عن جعل التعليم منصة لإطلاق الكفاءات نحو الخارج، تحتاج تونس إلى منظومة تربوية حديثة تتطابق أهدافها وحاجات الاقتصاد، وتتأسس مفاهيمها على اقتناع راسخ بأن في تونس آفاقاً واسعة للعمل والنجاح. فالالتباس اللغوي جزء من النظرة الملتبسة للكثير من التونسيين حول مستقبل بلادهم.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى