قفز الإنفاق العسكري العالمي إلى مستويات قياسية صادمة، بلغ نحو 2.24 تريليون دولار. زادت عدة دول إنفاقها العسكري بشدة، عقب الحرب الروسية – الأوكرانية واشتعال التوترات في أنحاء أخرى من المعمورة. تقرير لمجلة “الإيكونوميست” أوضح أن “العالم يعيش سباقَ تسلح محموماً”، متسائلاً عن “تأثير اقتصاد الحرب على حالة الاقتصاد العالمي، الذي يواجه شبح الركود التضخمي بالفعل”، ومن يدفع فاتورة “صناعة الموت”، والإجهاد واستنزاف قدرات الدول في “الخراب”، وكأن العالم يلهث للانخراط في “حرب عظمى” أو “حرب عالمية ثالثة”، فهل من عاصم قبل الطوفان؟!
زيادة هائلة
تكشف ضخامة الإنفاق الدفاعي عالمياً، في الوقت الراهن، عن تعاظم الصراعات وعسكرة العلاقات الدولية، بل الانتقال من مجرد العسكرة إلى الحرب؛ ما يؤشر إلى أن العالم قد ينزلق إلى حرب كبرى، لا تبقي ولا تذر، وهو مغمض العينين أو عن عمد.
وتتصدر الولايات المتحدة دول العالم في الإنفاق العسكري، إذ يقدر إنفاقها على التسلح بنحو 886 مليار دولار، بما يعادل 40 في المئة من الإنفاق العسكري العالمي كله، أو ما يقرب من مرتين ونصف قيمة الميزانية العسكرية لكل من الصين وروسيا، أو أربعة أمثال ميزانية الدفاع الصينية، وأكثر من 6 أمثال ميزانية الدفاع الروسية، بل إن بعض التقديرات تصل بالإنفاق العسكري الأميركي إلى رقم “تريليون دولار”، بعد إقرار نحو 100 مليار دولار مساعدات عسكرية لأوكرانيا وإسرائيل، تليها الصين بإنفاق عسكري يصل إلى 220 مليار دولار، ثم روسيا بنحو 140 مليار دولار، فالهند بإنفاق يصل 81.4 مليار دولار.
كما خصصت دول حلف الناتو الأوروبية 380 ملياراً للغرض نفسه، ووصل الإنفاق العسكري الأوروبي أعلى مستوياته منذ نهاية الحرب الباردة، ولا يزال يواصل الارتفاع… بينما سجلت أوكرانيا زيادة كبيرة في إنفاقها الدفاعي 640%، لتقفز إلى المركز 11، بعدما كانت في المركز 36 في العام قبل الماضي.
تشير دراسة معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام “سيبري” إلى أنّ مجموع الإنفاق العسكري في أميركا والصين وروسيا والهند والسعودية يشكل 65% من إنفاق المجمع الصناعي العسكري العالمي. ووفقاً للدراسة، ترتبط الزيادة الكبيرة في الإنفاق الدفاعي بشكل أساسي بالصراعات في أوكرانيا والشرق الأوسط والتوترات بين الصين وأميركا، في جنوب شرق آسيا والمحيط الهادي.
يرى الدكتور نان تيان، الباحث في برنامج الإنفاق العسكري وإنتاج الأسلحة التابع لمعهد “سيبري” أن الارتفاع المستمر في الإنفاق العسكري، خلال السنوات الأخيرة، يُعدُّ علامةً على أننا نعيش في عالم يتزايد فيه انعدام الأمن، وتعمل دوله على تعزيز قوتها العسكرية؛ رداً على البيئة الأمنية المتدهورة، والتي لا تتوقع تحسنها في المستقبل القريب.
التسلح والتنمية
يحذر خبراء ومفكرون وصناع قرار من أن سباق التسلح الراهن، يترتب عليه سباق من نوع آخر أشد وطأة، بين احتياجات تمويل التسلح، واحتياجات تمويل النمو الاقتصادي، على نحو يذكر بما وقع فيه الاتحاد السوفياتي في أثناء الحرب بأفغانستان، حيث تآكلت قوة محركات النمو الاقتصادي، إلى أن سقط الاتحاد السوفياتي، ومعه “حلف وارسو”.
وقد تعالت أصوات في الولايات المتحدة؛ محذرة من أن زيادة النفقات العسكرية تكبح النمو الاقتصادي لمصلحة أخطر المنافسين أي الصين. صحيح أن بكين أمامها شوط طويل قبل اللحاق بواشنطن اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً، إلا أنها استطاعت تضييق الفجوة التكنولوجية بين الدولتين بشكل لافت، ولا سيما في مجالات: الطائرات المسيرة والغواصات والتطبيقات العسكرية للذكاء الاصطناعي، إلخ…
وحتى الآن تعطي معظم الدول الأفضلية لتمويل التسلح على النمو الاقتصادي؛ يبلغ الإنفاق العالمي على التسلح والحروب ثلاثة أمثال معدل النمو الاقتصادي في العالم. وهي نسبة مرشحة للزيادة؛ بشكل هستيري، بسبب عوامل عدم اليقين التي ترجح اشتعال التوترات عالمياً؛ بمعنى أن سباق التسلح يهدد مستقبل العالم لا مجرد إبطاء فرص النمو؛ فالإنفاق العسكري نفسه يشهد تحولات ضخمة على جميع المستويات، المستوى الأول مرتبط بالتطور التكنولوجي الهائل، والذي ينعكس بطبيعة الحال على نوعيات أنظمة التسليح، مع الأخذ في الاعتبار توظيف الذكاء الاصطناعي في الصناعات العسكرية بشكل متزايد. وبعدما كان المجال العسكري “مرفوضاً لأسباب أخلاقية” من جانب رواد التكنولوجيا، أصبح المجال الأكثر حضوراً في الشركات التكنولوجية الناشئة عام 2022.
وهناك عدة عوامل تجعل من هذه الهستيريا العسكرية وسيطرة “اقتصاد الحرب” خطراً داهماً على الاقتصاد العالمي عموماً، الأول يتمثل في أن اقتصاد الحرب مربح للغاية لمن يستثمرون فيه، والثاني أن أسعار أنظمة التسليح تتزايد باطراد، وهو ما يؤدي لزيادة سنوية هائلة 5% على فاتورة التسلح دولياً. ثالثاً أن صناعة وتجارة الأسلحة تتسم بالسرية الشديدة؛ ما يجعل “مراقبتها” غاية في الصعوبة، ويفتح المجال أمام احتمالات تفشي الفساد وإهدار الأموال، ويقود إلى تراجع الإنفاق على: التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية والاستثمارات والبنية التحتية؛ ففي عام 2020، تسببت جائحة كورونا في خسائر ضخمة في الأرواح والأرزاق، لكن صناعة الأسلحة لم تتأثر بل ارتفعت المبيعات بصورة لافتة إلى 513 مليار دولار في عام واحد، أكثر من نصفها حصلت عليها شركات دولة واحدة، وهي الولايات المتحدة، بحسب تقرير لموقع Responsible Statecraft الأميركي.
الحضور العربي
اللافت أيضاً هو الحضور العربي القوي في قائمة الإنفاق على التسلح، ولا سيما استيراد أنظمة التسليح المتقدمة، فإذا كان متوسط الإنفاق العسكري العالمي 2.2% من الناتج المحلي الإجمالي، فإن الدول العربية تنفق ضعفين أو ثلاثة أضعاف المعدل العالمي بحسب “البنك الدولي”. المفارقة الأهم، أنّ الدول العربية تنفق كمتوسط سنوي أكثر من 7.4% من إجمالي المبالغ التي تم إنفاقها عالمياً للتسلح، في حين أن هذه الدول مجتمعة لم تسهم بأكثر من 3.2% من حجم الاقتصاد العالمي. وهذا تحديداً ما يشير بوضوح إلى عبء الإنفاق على التسلّح، مقارنة بحجم اقتصادات المنطقة. النتيجة الأولى والأهم لظاهرة الإسراف في الإنفاق على التسلّح، هي تقلّص نسبة الموارد المالية المخصّصة لسائر أنواع النفقات العامة.
وهذا ينقلنا إلى مفارقة مروعة أن بعض المجتمعات البشرية غارقة في التخلف والعوز، تفتقر إلى مقومات الحياة الأساسية، وبرغم ذلك تجد أن السلاح متوافر لدى أفرادها أو لدى الجماعات المسلحة التي تستخدم القوة والعنف في فرض آرائها وأفكارها ومعتقداتها، ما يدل دلالة واضحة على أن العالم لا يزال محكوماً بعقلية انتهازية ظالمة، تخطط لإبقاء الضعف والتخلف، وتسعى لإدامة العنف من أجل بقاء الأسواق المستهلكة للسلاح. بطبيعة الحال من يدفع ثمن “ضريبة الحرب” هذه هم الفقراء والمحتاجون حول العالم، الذين يعتمدون على إعانات الهيئات الإغاثية الأممية، والدول الأقل قدرة على مواجهة التأثيرات الكارثية للتغير المناخي، مع أن هذا الخطر الداهم الذي يتهدد الكوكب بأكمله هو صنيعة الدول الكبرى بالأساس.
ولو قدر لزعماء العالم أن يغيروا وجهات نظرهم، من خلال تقليص استخدام القوة وأسواق السلاح، وأن يعيدوا توجيه الإنفاق الضخم على نشر العلم والمعرفة، وإنقاذ الشعوب من براثن الفقر والأمية والجوع وتحسين سبل الحياة؛ لربما كان العالم أفضل حالاً وأقل عنفاً وفساداً. لكن العالم ما زال محكوماً بعقلية العصابات المتوحشة التي لا تقيم وزناً للحياة البشرية، ولا ترى في التجمعات الإنسانية إلّا سوقاً لإنتاج مصانع الأسلحة لديها من أدوات التدمير والقتل، ولدينا في غزة مثال مفزع. إن سكان كوكب الأرض بحاجة إلى الطعام والدواء والتعليم وسائر الضروريات والخدمات، وليس إلى الأسلحة التي تقتل وتدمر وتؤجج الحروب وتجلب مآسي الفقر والتشرد والنزوح، فهل يستمع العقلاء قبل الطوفان؟!