تعتقد دوائر مصرية أن اللحظة الراهنة حرجة وتفرض على النظام الحاكم القيام بإصلاحات سياسية تستوعب جميع القوى، وأن الطريقة التي أدارت بها السلطة عملية الإصلاح في العامين الماضيين بطيئة ولن تحقق أهدافها.
وقد كشفت حصيلة التحركات الخجولة على مستوى إدارة الحوار الوطني الحاجة إلى جرأة كبيرة في فتح المجال العام، فالاعتماد على أحزاب قريبة من الحكومة لن يضمن لكليهما استقرارا سياسيا، والقاعدة الشعبية المصطنعة تجعل المردودات ضعيفة، في وقت يمكن أن تشهد الأوضاع في المنطقة مدا ثوريا بعد سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد على يد فصائل مسلحة، تحت رعاية هيئة تحرير الشام.
وهو ما جعل دوائر مصرية في السلطة تسعى إلى فرملة أية توجهات كبيرة نحو الإصلاح السياسي، وترى خطرا من ورائه في هذه الأجواء، وربما يوفر لجماعة الإخوان فرصة العودة إلى قلب المشهد العام في القاهرة، فأي انفتاح إن لم يشملها مباشرة سوف تستفيد من ثماره، وتستطيع تحريك أذرعها النائمة أو الخاملة للتسلل إلى قوى سياسية ترى في المصالحة معها مطلبا مهما.
ومن هنا تتعامل الحكومة المصرية مع فكرة الإصلاح الكبير بحذر، وربما تردد، ما تسبب في أن تبدو تصوراتها لهذه المسألة مبتورة وغامضة في بعض الأحيان، فمع كل التصريحات الإيجابية حيال الحراك والانفتاح وفتح الباب للحريات واحترام حقوق الإنسان والإفراج عن المئات من معتقلي الرأي والسياسة مؤخرا، إلا أن النتيجة على الأرض لا تزال محدودة، كأن هناك جهتين تتصارعان حول عملية الإصلاح داخل السلطة، إحداهما تريد جذبه نحو الانفتاح، وأخرى نحو تقويضه واستمرار التضييق.
لدى كل جهة حجة تدعم التمسك بمسارها، فالأولى التي تؤيد الإصلاح تعتقد أنه شر لا مفر منه، فعلى مدار نحو عشر سنوات تجاوزت الدولة تحديات كبيرة، وتم توفير درجة آمنة من الاستقرار ولم تعد هناك تهديدات داخلية وجودية، فعبء الإرهاب تم تجاوزه، والتضييق لم يحل دون ارتفاع صوت المعارضة عبر وسائل إعلام خارجية ومواقع التواصل الاجتماعي، التي أكسبت المعارضة مساحة لتوصيل خطابها إلى شريحة كبيرة من المواطنين، فقدت ثقتها في الإعلام المصري الرسمي، وتأميم الفضاء العام لم يمنع أن تجد قوى معارضة ملاذها في فضاءات أخرى بديلة.
أضاف التحول الدراماتيكي في سوريا عبئا أو بعدا جديدا، حيث كثر الربط بمصر وتزايدت الإسقاطات بين ما حدث في دمشق وما يمكن أن يحدث في القاهرة مستقبلا، فالضمانة التي تعتمد عليها مصر للحفاظ على تماسك الدول ممثلة في المؤسسة العسكرية سقطت بسهولة في سوريا عقب تخلي الجيش عن الدفاع عن الرئيس السابق بشار الأسد، ما أفضى إلى تشكيك في الخطاب الذي ظل يردد أن الجيش هو ضامن الاستقرار في الدول العربية.
ولا يعني تنصل الجيش السوري من دفاعه عن الأسد سقوط النظرية الخاصة بأهمية الجيوش، فلا أحد يعلم حتى الآن طبيعة الأسرار التي تقف خلف ذلك، ويصعب التعميم، ومن المهم أن تكون هناك مراجعة لحدود الدور الذي تلعبه المؤسسة العسكرية في الحياة المدنية المصرية، لأن التوسع سوف يفضي إلى ترهل في الأخيرة، وربما تحول العديد من عناصرها إلى قوى مناهضة للأولى.
بينما تستند رؤية الجهة المتحفظة على الإصلاح السياسي إلى المتغيرات الخارجية وتعتبرها المحرك أو البوصلة في الداخل، تكبح الأوضاع القلقة الانفتاح، والاستقرار يدعمه، ومع السيولة الإقليمية الكثيفة يجب مراعاة المخاطر الناجمة عنها، والانتباه لروافدها التي يمكن أن تستفيد منها قوى لها أجندات خفية، في ممارسة ضغوط على النظام المصري، ما يثير شهية المعارضة للقيام بضغوط محلية موازية.
وفي هذه الحالة قد يصبح الإصلاح السياسي بلا سقف أو ضوابط نقمة وخطرا على دولة تعبت كثيرا إلى حين استطاعت تجاوز مرحلة سابقة بلغ فيها المد الشعبي أشده، وأدى إلى سقوط نظام الرئيس حسني مبارك، ما يفرض على النظام المصري الحالي أن يكون متريثا، ولا يقدم على فتح باب الحريات بالشكل الذي يثير شهية من يسعون إلى تصفية الحسابات معه، سواء أكانوا جماعات أم دولا.
إقرأ أيضا : هل تم تقطيع أوصال المحور الإيراني
يعتقد أنصار هذا التيار أن التمسك بإحكام قبضة الدولة خيار له أولوية في الوقت الراهن، وكل تساهل مع قوى المعارضة يفتح الباب لعناصر متطرفة، وتصبح جماعة الإخوان المستفيد الأول منه، لأنها الأكثر جاهزية، وترى أن ما حدث في سوريا يصب في صالح مشروعها السياسي.
ولذلك هناك تحسب واستنفار من قبل الأجهزة الأمنية في مصر لمواجهة متاعب أمنية، مع معلومات تقول إن عناصر تكفيرية من جنسيات عربية مختلفة تستعد للعودة إلى دولها، من بينها مصر وليبيا وتونس، ما يشير إلى تصعيد عملياتي للإرهابيين في الفترة المقبلة، ولن تكون مطالب الإصلاح السياسي مفيدة في هذه الحالة، وعلى العكس قد تصبح رأس حربة تتسلل منها جماعة الإخوان، ما يعزز فرملة المسار نحو الانفتاح.
قد تكون لكل رؤية تفسيراتها المقبولة والمرفوضة، لكن الحالة التي تعيشها مصر تتطلب إعادة نظر في بعض مسلماتها، وأن تملك الدولة عقلين، عقلا محليا ينظر إلى ردود الفعل الشعبية وتداعيات سقوط نظام بشار الأسد على يد إسلاميين من مشارب متباينة، وعقلا إقليميا – دوليا لا يبالغ في استمالة المصريين بعروض انفتاح وهدايا سياسية وعطايا اقتصادية، حفاظا على الهدوء.
وحتى الآن تحاول القاهرة الخلط بين أكثر من دور (أو عقل) إلى حين تتضح الصورة من زواياها، وفي كل الأحوال تبدو التغيرات جارفة ومغرية للبعض، ومن الوارد أن يحاول الإسلاميون الاستدلال بما حدث في سوريا والقول إن المواجهة مع النظام المصري يجب أن تكون ببعد مسلح لإجباره على القبول بتنازلات صعبة في عمليتي الإصلاح السياسي، وتليين الموقف الصارم من الإخوان وفلولهم.
ومن الوارد أيضا أن يندفع التيار المؤيد للانفتاح وتنتصر رؤيته، وتنجذب الدول الضاغطة غربيا أو إقليميا وراء فكرة التجاوب مع المطالبات فتصل الدولة إلى مواجهة أزمة من نوع جديد، يصعب توقع مآلاتها السياسية. أضف إلى كل هذا أن الولايات المتحدة من الآن حتى نهاية يناير القادم في كنف إدارة عابرة، ويصعب الوصول إلى اتفاق معها، إذ اعتادت مصر أن تدير جزءا من أمورها بالتنسيق مع الإدارات الأميركية، وهناك نحو أربعين يوما لحين تسلم الرئيس دونالد ترامب مقاليد السلطة. وهي فترة طويلة وثقيلة وحرجة، وتحتاج إلى نوع رشيد من تدبير الأوضاع في مصر، لأن طريق الإصلاح أو التخلف عنه مليء بمطبات سياسية وأمنية.