بقطع النظر عن التأثيرات المباشرة لترشيح عبداللطيف المكي للانتخابات الرئاسية في تونس، وهل هي تحد للنهضة وتقارب مع السلطة، فإن الخطوة تظهر وجود تفكير مختلف داخل الإسلاميين يروم إحداث مصالحة مع الدولة والواقع والكف عن ترديد أفكار كبرى قد تكون مهمة مراكز بحث ودراسات أو مناط بحوث علمية لمتخصصين، ليست مهمة حزب يطلب منه العمل على خدمة الناس.
قد يكون هامش هذا التفكير محدودا ولا يحصل على دعم حقيقي ولا يعبر عن توجه، لكنه بداية للتغيير داخل عقلية تنظر إلى الدولة / السلطة كخصم تجب مغالبته بقوة ودون تردد بقطع النظر عن النتائج، وهي مغالبة تفضي دائما إلى خسارة موجعة للإسلاميين كما حصل في 1986 و1987 ولاحقا في 1990 و1991.
الإسلاميون، منذ خرجوا من جبة الجماعة الإسلامية التي سعت للاستقطاب والدعوة، ولبسوا جبة “الاتجاه الإسلامي” ثم حزب حركة النهضة، بدل أن يتغيروا من جماعة إلى حزب سياسي، فقد ألبسوا الحزب لبوس الجماعة صاحبة الحق والأولى بالحكم، والتي تريد أن تسيطر بسرعة وتتمدد وتحكم المجتمع والسياسة والثقافة مع أنها لا تمتلك سوى محددات عامة، والدليل أنها حين حكمت بعد 2012 اضطرت لمظلة الشراكة والحكم الائتلافي والحكم من الصفوف الخلفية (مثلما حصل مع نداء تونس وتفريعاته (2014 – 2019) والاكتفاء بدور ثانوي.
هناك حديث كثير عن مقاربة الشراكة والعمل الجبهوي و”تعالوا إلى كلمة سواء” لكن حين تجد النهضة الفرصة للسيطرة فهي لا تتردد في أن تدخل الانتخابات بقوة مثل ما جرى في الانتخابات التشريعية 1989، وإن كانت دخلت وقتها تحت غطاء مستقلين، وهو ما جعل نظام زين العابدين الفتي يراجع فكرة التنفيس الديمقراطي لترويض الإسلاميين واحتوائهم بعد أن سمع من قادتهم رغبة في العمل تحت مظلته ومساندة صريحة له.
الهجوم على الانتخابات بهدف السيطرة واستعراض القوة دفع النظام الجديد / القديم لرص الصفوف ثم استدعاء قوى مدنية ومجموعات حزبية يسارية وشخصيات جامعية ونقابية للاحتماء بها وتوظيفها رأس حربة في وجه الغول الزاحف الذي يضمر عكس ما يقول.
بقطع النظر عن الحيثيات الأمنية لمواجهة 1990 و1991 بين النظام والإسلاميين، ومن خرق الخطوط الحمراء، فإن انتخابات 1989 هي القادح الذي وفر أرضية للمواجهة الدامية.
وتكرر الأمر أكثر وضوحا في انتخابات 2011. لم يستفد الحزب، الذي كان موزعا في دول الشتات الأوروبي وعاد على عجل، من أخطاء إستراتيجيته القديمة القائمة على فكرة السيطرة والتملك، كما لم يستفد من معايشة قادته لديمقراطيات غربية تحصل فيها الأحزاب على نسب محدودة تتغير بين دورة وأخرى لتخرج حزبا من الحكومة وتجلب آخر في حركة دوران لا تتوقف.
عاد الحزب إلى المربع الأول، مربع صاحب الأغلبية الذي يحكم ويعين الوزراء والمسؤولين من دون أن تكون له خبرات ولا كفاءات، ما اضطره إلى البحث عن ولاءات مصلحية حينية فتح أمامها باب الإدارة وأثار الكثير من الشكوك والمخاوف والاتهامات باختراق الإدارة والمؤسسات الحساسة في الدولة.
وحين خسر الحزب السلطة في يونيو 2021 مر مباشرة إلى خيار الصدام، وهو الأسلوب المفضل الذي يتقنه ويجعله في موقع الضحية والمظلوم ويمكّنه من أن يكسب التعاطف وخاصة رص صفوفه وطي خلافاته سريعا وأن يعيد لقيادته رمزيتها كواجهة للصدام والمظلومية.
البحث عن الصدام مع قيس سعيد لم يكن فقط للدفاع عن شرعية البرلمان والديمقراطية والحريات المفتوحة على الآخر. كان ذلك وجها من وجوه الموقف، لكن الوجه الأهم أن الصدام أنقذ رئيس “النهضة” راشد الغنوشي من ديمقراطية داخلية نجحت في رفع مظلة القداسة عن رئيس الحركة/ الزعيم/ الأمير.
صدمت الديمقراطية بيت الإسلاميين من الداخل وخلقت شقوقا وتشققات في جدران الحزب الذي ما يزال يحتكم لآليات الجماعة بما فيها من ولاء وطاعة وصفوة وعامة وقيادة وقاعدة ولم ينقذ البيت من التهاوي سوى مسار الصدام مع 25 يوليو، وهو ما يفسر أن الغنوشي ذهب بنفسه ليقف أمام البرلمان وحيدا في حركة توحي بالرغبة في استعجال التصعيد والدفع نحوه مع أن الأمر كان يحتمل هرما عكسيا واعتماد التصعيد المتدرج بالبيانات والاجتماعات والاحتجاجات وليس استعجال مواجهة مباشرة.
توحي مشاركة المكي في انتخابات رئاسية يعرف مسبقا أنه لن يكون فيها فائزا، حتى وإن جرت بأسلوب الديمقراطية القديم، بأن الهدف هو كسر فكرة الصدام وبناء فكرة المشاركة من موقع ثانوي يمكن أن يلعب فيه دورا منافسا ومعدلا أو معارضا ناقدا من داخل مظلة الدولة بوجوهها ورموزها المعلنة والعميقة وليس من خارجها، وهو المسار الذي تعتمده أحزاب يسارية وقومية صغيرة.
وهذا النفس كان واضحا في تصريحات المكي حين إعلانه عن تشكيل حزب العمل والإنجاز أو خلال عقد مؤتمره الأول وبعده. هناك إصرار على أن الحزب حزب عمل، وقد تكون أهم مآخذ المكي على تجربته الحزبية السابقة كونها كانت تجربة كلام كبير وتنظير يناقش قضايا في التاريخ أو في الحاضر بمفردات صعبة مستغلقة بعيدة عن هموم الناس ومعيشتهم.
والنقطة الثانية أن الحزب يصف نفسه بأنه حزب محافظ، وهو توصيف فضفاض قد يعني الإسلام الإخواني القادم من الشرق، وقد يعني الإسلام الزيتوني التونسي الذي يعتمد على فكرة صلاح الفرد شرطا لإصلاح المجتمع، وقد يعني مدونة (مجلة) الأحوال الشخصية التي اعتمد عليها بورقيبة وعارضها الإسلاميون بشدة قبل أن يعودوا من باب التطبيع مع القوى المدنية والعلمانية إلى تبني هذه المدونة واعتبارها اجتهادا من داخل النص الإسلامي.
التعويم الذي يحمله مصطلح محافظ مقصود وفيه رسالة من المكي ورفقائه المؤسسين للحزب الجديد بأنهم ينأون بأنفسهم عن جدل الهوية القاتل الذي أخذ من الإسلاميين عقودا من الصراع ولم يشفوا منه بعد، وأنهم يريدون لعب دور شبيه بدور الأحزاب المسيحية في أوروبا التي تتبنى موجهات فكرية عامة عن الهوية وتركز جهودها على تقديم أفكار تفصيلية وعملية لخدمة الناس والمساعدة في تحسين وضعهم ضمن منظومة سياسية الاختلافات فيها جزئية.
سيعارض الإسلاميون تمشيا يجعلهم يفقدون صفة الفرقة الناجية التي توكل لها مهمة القيادة، لكنهم مع مرور الوقت، سيبدأون بالتفاعل مع الحزب الجديد لدعم توجهه القائم على المشاركة في البناء وليس هدم المعبد على الرؤوس.
تبقى أن الضمانة الرئيسية لنجاح انعطافة الإسلاميين نحو مسار يقوم على التواضع والشراكة المجتمعية وخدمة الناس، مرهونة بمدى قدرة الحزب الجديد على الوفاء لتوجهه، وأن يبدأ في إعداد أفكار وخطط تفصيلية لتطوير بعض القطاعات التي يعتقد أنه يفيد في خدمتها. ليس مطلوبا من الأحزاب أن تقدم برامج وخططا في كل المجالات فهذه مهمة الدولة وخبرائها، لكن من المهم امتلاك الأفكار والسعي للتغيير العملي بعيدا عن شعارات من يتوهم امتلاك جواب لكل سؤال أو فكرة.
لكن الأهم أن المكي يكون قادرا داخل حزبه على تنفيذ ما كان يعتبره مآخذ على النهضة والغنوشي، وعلى رأسها مسألة الزعامة، فهل يقدر المكي أن يكسر هذه القاعدة، ويؤسس لقيادة جماعية ويخضع لموقف المؤسسات، وهل سيجد بعد سنوات أن ثمة من يفيد من حزبه كي يتسلم دفة القيادة، خاصة أن جزءا كبيرا من قاعدته من الأجيال الجديدة التي قد لا تستوعب رسالة الحزب وأجندته، وقد تحوله إلى حزب براغماتي يومي يحصر همه في الانتخابات وتحصيل مكاسب ولو صغيرة في البرلمان أو الحكومة.