أمريكا

الإدارة الأميركية بين ابتزازين إسرائيلي وإيراني

قبل أمير عبداللهيان بسنوات كان الرئيس الإيراني محمد خاتمي يصف قبرص بأنها "بيئة ملائمة للتعايش وحوار الحضارات"، واستمر هذا التقييم مع حكومة حسن روحاني

تقدم مشهد الحرب المفتوحة بين إسرائيل و”حزب الله” على وقع استمرار المعارك في غزة وفشل التوصل إلى اتفاق كان اقترح خطوطه الرئيس الأميركي جو بايدن وأقره مجلس الأمن الدولي، لكن التوتر المتصاعد بين إسرائيل والحزب (ممثل إيران الأول والأقوى في المنطقة) بقي محكوماً بإرادتين أميركية وإيرانية لا تشجعان حرباً واسعة.

أميركا لم تخف يوماً رغبتها وسعيها إلى تهدئة على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية والتوصل إلى وقف للحرب في القطاع الفلسطيني، وإيران أرسلت أكثر من رسالة تطمين مفادها أنها لن تدخل حرباً لا تستهدفها مباشرة، بدءاً من نأيها بنفسها عن غزوة “حماس” في تخوم غزة، وصولاً إلى حرب “حزب الله” التضامنية مع القطاع، وهي رداً على تصاعد التهديدات الإسرائيلية وبعد الخطابات النارية لقادة “حزب الله” رأت أنه من المناسب الإعلان على لسان بعثتها في الأمم المتحدة أن “المقاومة الإسلامية في لبنان تملك القدرة على حماية نفسها”.

جرى تفسير هذا الموقف على أنه رغبة إيرانية في عدم التورط المباشر، وفسر كذلك على أنه إشارة إلى استمرار التواصل الأميركي – الإيراني في محادثات كانت جولتها الأخيرة في أربيل العراقية.

لماذا التصعيد الإسرائيلي إذاً؟ وما الهدف من الردود النارية التي يطلقها حسن نصرالله زعيم “حزب الله”، والتي وصلت أخيراً إلى حد التهديد بضرب قبرص والقول إن ما ينتظر إسرائيل في البحر المتوسط كبير جداً، وعليها أن تنتظرنا “بحراً وجواً وبراً، وإذا فرضت الحرب فسنقاتل بلا ضوابط وقواعد وأسقف؟”.

تفسير تصاعد التهديدات الإسرائيلية لا يحتاج إلى جهد كبير وهي التي تعطي “حزب الله” مادة لخطابه المتوتر، في الشمال أجبرت هجمات “حزب الله” نحو 10 آلاف إسرائيلي على إخلاء المنطقة الحدودية، هؤلاء يشكلون عبئاً ضاغطاً على الحكومة الإسرائيلية وباتت مسألة إعادتهم إلى مستوطناتهم قضية صراع سياسي داخلي إضافة إلى كونها مسألة تدخل في صميم الأمن القومي الإسرائيلي، إذ لا يمكن لأي سلطة إسرائيلية أن تقبل بشريط أمني حدودي تفرضه قوى أجنبية هي التي اعتمدت قضم أراضي الآخرين وضمها.

وفي إسرائيل يأخذون في الاعتبار تجربة اقتحام مستوطنات غلاف غزة التي كانت نتيجتها الحرب المدمرة الراهنة، ولا يتعاملون بخفة مع تهديدات “حزب الله” منذ سنوات باقتحام الجليل.

في المقابل فتح “حزب الله” حربه على إسرائيل من دون أن يكون للسلطة الشرعية في لبنان، أو لبقية الشعب اللبناني علاقة بهذه الخطوة، والموقف الرسمي اللبناني الوحيد المتخذ هو الترحيب بأي مسعى لمنع هجوم إسرائيلي كبير مع ترداد لأزمة إنهاء الحرب في غزة لضمان الهدوء في الجنوب، وهذا موقف يلائم الحزب صاحب القرار بخوض معركة يقول إنه لا يريد تحولها إلى حرب شاملة.

إسرائيل تعرف هذه الوقائع اللبنانية بدقة، عندما تهدد بهجوم يعيد لبنان إلى العصر الحجري، هي تعرف من يمسك بالسلطة ومن يتربع شكلاً على رأسها، وبحسب المحلل في صحيفة “هآرتس” تسفي برئيل فإن الوضع يختلف تماماً عن عام 2006 عندما كان في لبنان حكومة نشطة تتخذ المواقف، والآن “يوجد لرئيس الحكومة نجيب ميقاتي فقط صلاحية صياغة البيانات لوسائل الإعلام”.

مع ذلك تبدو حدود الخلاف بين إسرائيل و”حزب الله” مرسومة بدقة، مما يجعل تصعيد الطرفين، نتنياهو من جهة ونصرالله من جهة ثانية، دافعاً إلى التفكير بأسباب وأهداف أخرى أبعد من محدودية الاشتباك على الحدود والنتائج التي يراد الوصول إليها.

قد يصح القول إن نتنياهو يدفع الأمور إلى التوتر الأقصى ضمن رسائله المتتالية إلى الإدارة الأميركية بهدف البقاء في السلطة لمواجهة إرهاب دولي تقوده إيران كما يعتقد، ولم يخف رئيس الوزراء الإسرائيلي خلافه مع بايدن في هذا الشأن على رغم تولي هذا الأخير دعم إسرائيل في كل معارك الأشهر الأخيرة.

في الأيام الأخيرة وبينما كانت المفاوضات في شأن مبادرة بايدن الغزاوية تدخل في سبات عميق، ترافق التصعيد في الشمال مع تصريحات مزعجة يطلقها نتنياهو ضد بايدن وإدارته، وبدا وكأن نتنياهو المدعو إلى مخاطبة الكونغرس في الشهر المقبل يخوض معركة إسقاط بايدن لمصلحة منافسه دونالد ترمب، والسبب العميق لهذا الموقف هو رفض إسرائيل سياسة الإدارة الأميركية تجاه إيران.

ويقول المحلل الإسرائيلي نداف إيال في “يديعوت أحرونوت” إن “البيت الأبيض يريد وقف النار في غزة والشمال، والباقي ثانوي، ليس لأميركا أي استراتيجية بعيدة المدى لتحدي إيران وأذرعها”، والمحلل حرص على التذكير بقول للرئيس روزفلت “تحدث برقة وخذ معك عصا غليظة”، وفي رأي الإسرائيليين لم يستفد بايدن من نصيحة روزفلت، وهو يواصل المساومة مع إيران على رغم مضيها في مشروعها النووي وسياستها التوسعية في المشرق.

نصرالله بدوره يخوض معركة إزعاج بايدن عبر خطبه التصعيدية عالماً سلفاً بدقة الضوابط التي تمنع حتى الآن هجوماً إسرائيلياً كبيراً في لبنان، وفي معركته يحصن نصرالله نفسه وحزبه من جهة ويعزز الموقف الإيراني في التفاوض مع الأميركيين من جهة أخرى، ولا يمكن فهم تهديد نصرالله لقبرص في اللحظة الراهنة خارج استجلاب مزيد من الاهتمام الأميركي والأوروبي وطرح مزيد من النقاط على جدول المساومة.

لم تكن قبرص حتى بعد استضافتها مناورات عسكرية إسرائيلية في موقع العدو حسب التصنيف الإيراني، وفي أبريل (نيسان) الماضي عينت إيران سفيراً جديداً لها في نيقوسيا هو علي رضا سالاريان، وحرص وزير الخارجية الراحل أمير عبداللهيان على إعطائه التوجيهات قبل تسلمه مهام منصبه وأبرزها “تعزيز العلاقات الثنائية عبر توظيف الطاقات المتاحة على صعيد التعاون الاقتصادي والسياحي والعلمي والأكاديمي”، ولم يلحظ عبداللهيان أي نقطة سلبية في العلاقة مع نيقوسيا على رغم احتدام معارك غزة.

قبل عبداللهيان بسنوات كان الرئيس الإيراني محمد خاتمي يصف قبرص بأنها “بيئة ملائمة للتعايش وحوار الحضارات”، واستمر هذا التقييم مع حكومة حسن روحاني.

يمكن إدراج الهجوم المفاجئ الذي أصاب المسؤولين القبارصة “بالحيرة” ضمن استراتيجية الحرس الثوري الإيراني الأصلية التي نظر إليها اللواء يحيى رحيم صفوي مستشار المرشد العسكري، وفيها أن إيران وصلت ثلاث مرات إلى البحر المتوسط في تاريخها، ولذلك عليها أن “تزيد عمق دفاعها الاستراتيجي إلى 5 آلاف كيلومتر”.

هذه النظرية اتخذت أشكالها التطبيقية بعد حرب غزة في غارات الحوثيين في البحر الأحمر وتهديد إيران وجماعاتها بنقل المعركة إلى البحر المتوسط وجبل طارق .

يخدم خطاب نصرالله المنطق الإيراني هذا، ويدعمه في حربه وتهديداته ومفاوضاته، وهو بطريقة يلعب لعبة الوجه الآخر من سلوك نتنياهو في إثارة انتباه الإدارة الأميركية والغرب، سعياً وراء استثمار إيراني إقليمي بشروط أفضل، ومساومة حدودية وربما لبنانية داخلية، خطوطها العامة يجهزها المبعوث آموس هوكشتاين، يمكن أن تحفظ له ولحزبه الموقع والسلاح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى