رغم الجدل التونسي الذي أثير بشأن حدود الدعم الأوروبي لتونس ومحدوديته قياسا بما تنتظره البلاد، لكن أوروبا تستمر في تقديم الدعم بشكل منوع بعضه لدعم الميزانية (150 مليون يورو)، والبعض الآخر (92 مليون يورو) لبناء المدارس ودعم صغار الباعثين الاقتصاديين، وآخره المنحة المخصصة لدعم قوات الأمن التونسية ومساعدتها على تطوير أدائها في معركة التصدي للهجرة غير النظامية ومقدارها 165 مليون يورو.
من الواضح أن أوروبا تتعامل مع تونس مثلما تتعامل مع دولة في الاتحاد الأوربي، فهي ضرورة جغرافية وأمنية وسياسية بالنسبة إليها. وأيا كان الرئيس أو الحزب الذي يحكمها فهي تتعامل معه وتسعى لبناء أرضية مشتركة لدعم تونس والحفاظ على استقرارها لأنه جزء من استقرار أوروبا وإحدى ضمانات أمنها.
خلال فترة حكم حركة النهضة، ورغم المخاوف التي كان الأوروبيون يشعرون بها فإنهم تعاملوا مع حكومتي الترويكا، ومع الحكومات اللاحقة التي كانت النهضة طرفا فيها، ولم يتوقف الدعم الأوروبي ولا المشاريع الأوروبية، فهم يعرفون أن الخلافات الداخلية أمر واقعي، وأن الانتخابات التي جاءت بالنهضة إلى الحكم ستجرفها خارجه في وقت لاحق.
وفي قلب أزمة الإرهاب واكتشاف أوروبا أن التونسيين “صقور” في العمليات المتوحشة التي نفذت في أكثر من مدينة أوروبية أشهرها هجوم نيس في 2016 الذي أودى بحياة العشرات، لم يلجأ الاتحاد إلى طرد التونسيين، ولا منعهم من دخول أوروبا، ولكن ركز على التنسيق مع تونس لمواجهة الظاهرة وتفكيك شبكاتها، التي كانت تستفيد من موجة الهجرة السرية التي ازدادت بعد الثورة في ظل الأزمة المركبة أمنيا وسياسيا واقتصاديا، التي عاشتها البلاد وقتها.
ولم يغير خطاب الرئيس الحالي قيس سعيد والحديث عن استقلالية القرار الوطني والمعاملة الندية، ولا انتقاداته لضعف أحد عروض التمويل ضمن اتفاق “الشراكة الإستراتيجية”، من عزيمة الأوروبيين وصبرهم من أجل الاستمرار في دعم تونس والحفاظ عليها كشريك مباشر وأساسي اقتصاديا وأمنيا.
وسبق أن أشارت إلى هذا التمشي رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين حين قالت إن “الاتحاد الأوروبي يواصل وقوفه إلى جانب تونس، ويقوم بصرف مبلغ 150 مليون يورو لدعم الإصلاحات الاقتصادية والاستقرار المالي”، وهي المنحة المخصصة لدعم الميزانية.
ولكي تنجح أي شراكة لا بد من أن تكون مبنية على التكافؤ وتبادل المنافع. ومثلما أن أوروبا تضخ التمويلات باستمرار، وإن كانت في شكل أقساط محدودة للحفاظ على استقرار تونس ماليا واقتصاديا وأمنيا، فإنها تطلب في المقابل من تونس المساعدة على تأمين أمن أوروبا وأمن تونس في نفس الوقت بالمساعدة على وقف تدفقات الهجرة.
الحديث عن السيادة والندية مهم سياسيا بالنسبة إلى نظام الرئيس سعيد وشعبيته، لكنه لا يتعارض مع التنسيق من أجل تنفيذ المشترك الذي تم التوافق عليه لمواجهة موجة الهجرة المتزايدة بسبب أزمات دول شمال أفريقيا أو أفريقيا جنوب الصحراء.
ومثلما أن تونس لم تتخل عن دورها في صد موجات المهاجرين القادمة من أفريقيا، وإعلانها باستمرار عن إنقاذ العشرات من المغامرين باجتياز البحر، ووقف المهربين، فإن أوروبا تستمر بدورها في تقديم المساعدات اللازمة، وآخرها ما كشفته عنه صحيفة فاينانشال تايمز الأحد من أن الاتحاد الأوروبي يعتزم تقديم ما يصل إلى 164.5 مليون يورو (177.74 مليون دولار) على مدى ثلاث سنوات لقوات الأمن التونسية.
وقالت الصحيفة إن البرامج الممولة من الاتحاد لصالح قوات الأمن التونسية تتضمن أكاديمية تدريب للحرس البحري التونسي تنفذه الشرطة الاتحادية الألمانية كما سيتم إنفاق الأموال على شراء معدات منها رادارات وزوارق للحرس البحري، فضلا عن إنشاء نقاط حدودية برية.
وتمثل المنحة الأوروبية المخصصة لقوات الأمن التونسية للمساعدة في محاربة الهجرة غير الشرعية مؤشر ثقة بها وبخبراتها في ملاحقة شبكات تهريب البشر، والمنحة في نفس الوقت مكافأة لهذه القوات ولصبرها، وللسياسات الأمنية لتونس والإجراءات الحكومية الشاملة للتصدي للمهربين على الحدود برا وبحرا، مع ما يعنيه ذلك من جهد ومال وخطط قد تكون في بعض الأحيان على حساب قطاعات أو ملفات أخرى أكثر أهمية وحساسية، وهو ما تتفهمه أوروبا وتعكسه المنحة التي تهدف إلى المساعدة في تمويل الحملات التونسية وتجهيز قوات الأمن لتكون أكثر قدرة على مواجهة حيل وشبكات المهربين.
ومن الواضح أن الأوروبيين يريدون المزيد من التعاون وأن الدبلوماسية التونسية تعمل بهدوء وصمت للتوصل إلى اتفاقات مفيدة وعملية، وهو أمر مهم في هذه المرحلة، فالحكومة التونسية لم تتوقف عند الانتقادات ولا عن المضي في الشراكة إلى حين تحقيق شروطها بل استمرت في تنفيذ ما عليها من متطلبات الشراكة، وواجهت موجات المهاجرين بقطع النظر إن كانت أوروبا ستزيد من وتيرة الدعم أم لا مثلما أن خلافها مع صندوق النقد الدولي لم يمنعها من البحث عن تمويلات من مؤسسات مالية مختلفة بما في ذلك البنك الدولي. المهم أن تنهض بدورها في الحد من الأزمة، وليس الوقوف عندها وانتظار الحلول التي تأتي من الآخرين.
من الضروري توسيع قاعدة التعاون مع أوروبا ومع غيرها والابتعاد عن المواجهات الكلامية التي لا تقدم ولا تؤخر، في عالم لم يعد فيه بمقدور أي دولة أن تفرض شروطها على الآخرين، ولو كانت في موقف قوة وتأثير، والجميع يختار طريق التفاوض المرن وحل الإشكالات من خلف الستار.
وكان حصل خلاف بين تونس والاتحاد الأوروبي بشأن اتفاق الشراكة الشاملة الذي تم توقيعه بين الطرفين في يونيو الماضي، ووعدت فيه أوروبا بمنح تونس حوالي مليار دولار لمساعدتها على تخطي أزمتها المالية ضمن مقاربة لتشجيعها على لعب دور متقدم في التصدي لتهريب البشر.
أوروبا فصلت بين الدعم المباشر لعمليات التصدي للهجرة، وبين التمويل للمشاريع الاقتصادية، وقالت إن الأمر مرهون بتوصل تونس إلى اتفاق مع صندوق النقد لكن تأويل تونس كان مختلفا ورأت أن الهدف من الاتفاق هو تحصيل دعم أوروبي متعدد الأوجه للبلاد ومساعدتها على مواجهة وضع اقتصادي صعب، وأن الهجرة عنصر من ضمن خمسة عناصر، ولا يمكن إفراغ الاتفاق من محتواه والاكتفاء بجزئية.
ودفع التوتر بتونس لإعادة منحة 60 مليون دولار كان ضخها الاتحاد الأوروبي ضمن برنامج التعافي من آثار كورونا، ووصفها الرئيس سعيد بأنها رقم هزيل.
الآن يبدو أن الطرفين قد غادرا مربع الجدل المعلن نحو تفاهمات عملية كان من ثمراتها حصول تونس على منح مختلفة تأتي في ظرف مهم في وقت تسعى فيه الحكومة إلى معالجة الكثير من الملفات.