تخيل نفسك، عزيزي التونسي، وأنت في الحياة دون تطبيب أو أطباء أو مستشفيات أو أجهزة طبية أو أنظمة صحية. من سيقوم برعايتك وإعطائك وصفة العلاج اللازمة لأمراضك الموسمية أو العرضية أو المزمنة؟ ما قيمة المال الذي ستدفعه مقابل رؤية نفسك سليما معافى؟ طبعا لا شيء، لأن الصحة لا تقدر بثمن.
من الطبيعي أن تثير زيادة رسوم الفحص الطبي في تونس موجة من ردود الفعل على شبكات التواصل الاجتماعي أو في الواقع اليومي، لأنها تؤكد حالة الانفتاح الذي اعتاد عليه التونسيون لمناقشة القضايا الأساسية الحساسة. مع ذلك، فمن المهم أن نتذكر أن أجور الأطباء في بلدنا هي من بين أدنى المعدلات في العالم مقارنة بما يقدمونه من خدمات صحية، سواء في القطاع العام أو الخاص. وبالتالي، فإن الاعتراف بجهودهم وتقديرهم ليس مجرد أمر يتعلق بالمال فحسب، بل يجب أن يشمل اعترافا حكوميا ومجتمعيا بأهمية دورهم في ضمان صحة المواطنين وسلامتهم حتى مع الانعكاسات السلبية لهذه الخطوة.
قرار عمادة الأطباء بزيادة الرسوم في القطاع الخاص بنسبة 25 في المئة قد يراه الكثيرون خطوة لتحسين وضع الأطباء، ولكنه أيضا يعكس واقعا صعبا يعاني منه القطاع الطبي. وفي ظل الجهود الكبيرة التي يبذلونها في توفير الرعاية الصحية للمرضى، يبدو وضعهم المادي والمعنوي لا يتناسب مع حجم المسؤوليات التي يتحملونها، فضلا عن الضغوط النفسية والمهنية التي يعانون منها، ما يجعلهم في حالة من الاستنزاف المستمر. هذه الزيادة هي، في كثير من النواحي، محاولة متواضعة لمعالجة الضغوط المالية التي يواجهونها.
على الرغم من مبرراتها، فقد أثارت الخطوة انتقادات شديدة في سياق تشهد فيه القدرة الشرائية للتونسيين انخفاضا حادا، فالزيادة في تكاليف الاستشارة تهدد بالمزيد من تقييد الوصول إلى الرعاية الصحية. بالنسبة للتونسيين، تضاف عملية كهذه إلى قائمة طويلة من التكاليف اليومية المتزايدة، مما يعقد قدرتهم على زيارة عيادات الأطباء عند ظهور الأعراض الأولى لأي مرض كان، كما هو الحال بالفعل في كثير من الأحيان للعناية بالأسنان.
قد تكون لهذا الوضع عواقب على الصحة العامة، فغالبا ما يؤدي التأخير في الرعاية الطبية إلى مضاعفات تتطلب علاجات أطول وأكثر تكلفة. وفي المقابل، فإن هذه الظاهرة تهدد أيضا بزيادة نفقات صناديق الضمان الاجتماعي، التي تم إضعافها بالفعل جراء تراكم المشاكل لسنوات، مما يزيد من إجهادها في سداد التكاليف للأمراض الأكثر تقدما وتعقيدا، بما فيها الأمراض المزمنة كالسكري.
إقرأ أيضا : سياسة تكميم الأفواه في العراق.. من قال إن الدكتاتورية انتهت
ما يحصل أمامنا من زاوية موضوعية يسلط الضوء بوضوح على ظاهرة عدم الاعتراف الحقيقي بأهمية مهنة الطب ودورها الحاسم في الرعاية الصحية التي كانت ولا تزال نموذجا يحتذى به في منطقتنا العربية. فرغم التضحيات الكبيرة التي يقدمها الأطباء، فإن ظروف عملهم والرواتب والآفاق المهنية لا ترقى دائما إلى مستوى المسؤوليات والتوقعات. يجد العديد من الأطباء أنفسهم تحت ضغط كبير ويواجهون أعباء عمل ثقيلة وظروفا صعبة، وغالبا ما يشعرون بعدم التقدير، مما يدفع البعض إلى التفكير في الهجرة إلى بلدان حيث ظروف العمل والأجور أكثر ملاءمة.
في الواقع، يواجه العديد من الأطباء التونسيين ضغوطا متزايدة لترك البلد، بحثا عن فرص أفضل في الخارج في بلدان تقدم رواتب أعلى وظروف عمل أفضل ومستوى أعلى من الاحترام المهني. إن ظاهرة “هجرة الأدمغة” هذه تشكل مصدر قلق حقيقي بالنسبة لتونس، حيث تفقد مهنيين طبيين قيمين كان من الممكن أن يساهموا في تطوير وتحسين نظام الرعاية الصحية الوطني.
هذا الوضع يتفاقم بسبب حقيقة أن الأطباء رغم النظر إليهم باعتبارهم ركائز النظام الصحي، إلا أن وضعهم الاجتماعي والاقتصادي لا يزال هشا كما هو الحال مع العديد من القطاعات التي تعد من ركائز أي دولة، بما فيها النقل والتعليم. ومع ذلك، فإن دورهم أساسي ولا يقل أهمية عن المهندسين أو سائقي وسائل النقل العام أو حتى عمال النظافة، ففي أوقات الأزمات الصحية، يكونون على خط المواجهة، ولا يمكن إنكار مساهمتهم في المجتمع. ونظرا لعدم وجود دعم حكومي قوي وزيادة المنافسة مع أنظمة الرعاية الصحية الأجنبية، يجد الأطباء أنفسهم مجبرين على الاختيار بين خيارين: إما تحسين وضعهم بكل تفاصيله أو حزم الحقائب والمغادرة إلى بلدان تمنحهم التقدير على جهودهم، لأن ما يأخذونه مقابل ذلك تحصيل حاصل.
إن الجدل الدائر حول زيادة الرسوم في القطاع الخاص هو أحد أعراض هذه القضية الأوسع التي غفلت عنها السلطة إما متعمدة أو عن غير قصد، لكنه في النهاية كان بسبب سوء إدارة دواليب الدولة لأكثر من عقد من الزمن ما جعلنا نصل إلى هذا المفترق. لذا من الضروري اليوم إيجاد توازن يضمن أجورا مجزية للأطباء مع ضمان وصول الناس إلى الرعاية الصحية العادلة. يتطلب ذلك إعادة النظر في سياسات الصحة العامة، وزيادة الدعم للتدريب والبحوث الطبية، فضلا عن تعزيز أكبر للمهنة على جميع المستويات، بما في ذلك ظروف العمل سواء في المدن أو الأرياف.
لقد حان الوقت لكي تدرك تونس تماما أهمية أطبائها وتمنحهم المكانة التي يستحقونها، سواء في المجتمع أو في السياسات العامة. يحتاج الأمر إلى حوار شامل بين الأطراف المعنية: الأطباء والحكومة والمجتمع. وحتى تحتفظ بمواهبها الطبية وتوفر رعاية صحية عالية الجودة لمواطنيها، يجب على الدولة معالجة هذه القضية سريعا ليس فقط من خلال تقديم تعويضات أفضل، ولكن عبر توفير بيئة أكثر دعما واحتراما للعاملين في القطاع. وهذا من شأنه أن يساعد في تقليل مشاكل الأطباء، وفي نهاية المطاف، ضمان بقاء نظام الرعاية الصحية في بلدنا قويا وفعالا.