جميعنا متفقون على أن قضية الأسرى الفلسطينيين هي القضية المركزية التي تمثّل روح النضال الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي، على مدار نحو 70 عاما متواصلة من الاحتلال، حتى أن الشعب قد قدّم أرقاما خيالية من الأسرى، وأنهم في الوعي الجمعي الفلسطيني، ليسوا مجرد أبناء الوطن المغيبين بفعل السجن، بل هم أبطال ناضلوا وضحوا، فأفنوا زهرات شبابهم خلف قضبان السجون، من أجل فلسطين ومقدساتها، وهم أيقونات الحرية، الذين ينتظر شعبهم عودتهم.
كما أن الجميع يتفق، على أن قضية الأسرى تعتبر جزءا أساسيا من نضال الفصائل الفلسطينية، وأحد أرسخ دعائم مقومات القضية الفلسطينية، وتحتل مكانة عميقة ومتقدمة في وجدان الشعب الفلسطيني، لما تمثله من قيمة معنوية ونضالية وسياسية لدى كل الفلسطينيين على اختلاف انتماءاتهم وتوجهاتهم، لكن بعد أحداث السابع من أكتوبر 2023، وما أحدثته من دمار هائل في قطاع غزة، وما يدفعه الشعب الفلسطيني هناك في كل دقيقة من دمائه، بات السؤال الأهم، كم من المفترض أن يدفع شعب غزة ثمنا لاطلاق سراح الأسرى؟ وإلى متى ستبقى الدماء تسيل في القطاع المحاصر والمجوع، حتى تتم صفقة تبادل؟
إقرأ أيضا : سوريا ما بعد الأسد… تمدد المصالح التركية وانحسار الإيرانية
ومع كل صفقة تبادل أو مفاوضات تلوح في الأفق، يعيش أهالي الأسرى في الضفة الغربية وغزة على أمل أن تتحقق الحرية لأبنائهم وبناتهم. لكن في ظل الأوضاع المتوترة والدماء التي تُراق يومياً في غزة، يتساءل البعض عن الثمن الذي تُدفعه هذه الدماء لتحقيق هذا الأمل، وعن دور الحركة الأسيرة في توجيه مسار هذه المعادلة الأخلاقية والسياسية.
صحيح أنه ما من بيت فلسطيني إلا وعانى مرارة الاعتقال، وما من فلسطيني إلا وجرب ويلات السجن والاعتقال، ومنهم من تذوق ذلك بجسده، ومنهم من رأى ذلك على جسد غيره من أفراد أسرته أو أقربائه و جيرانه و أصدقائه، لكن لابد من وضع النقاط على الحروف هذه المرة، فطالما أن اطلاق سراح الأسرى يكون بدفع ثمن باهظ من دماء الأطفال والنساء في غزة، فلابد من التوقف هنا وإعادة النظر من جديد في آليات اطلاق سراحهم.
وفي الوقت الذي تشهد فيه الساحة الفلسطينية انقساما عميقا ليس فقط بين الحركات السياسية، بل أيضا في الأولويات والتفاعل مع الأزمات، فإن غزة التي تتحمل وطأة الحصار والعدوان تُدفع دائما إلى واجهة الصراع، وتتحمل أثمانا باهظة من أرواح المدنيين، بمن فيهم الأطفال والنساء. في المقابل، تُتهم الضفة الغربية بالتخلي عن غزة، سواء من حيث التضامن السياسي أو تقديم الدعم الفعلي، وللأسف فإن هذا الواقع يخلق شعورا بالخذلان لدى أهالي غزة، الذين يرون أن تضحياتهم تُستخدم كورقة ضغط لتحقيق أهداف سياسية، مثل الإفراج عن الأسرى، بينما لا يتلقى سكان القطاع دعما كافيا من الضفة في المقابل.
وهذا الأمر دفع الكثيرين إلى انتقاد حركة حماس، التي تدير شؤون غزة وتفاوض في ملفات الأسرى، بشكل متزايد بسبب الطريقة التي تُدار بها هذه المفاوضات، فلقد بدأت مؤخرا تُثار تساؤلات جدية حول ما إذا كان الإفراج عن الأسرى يتم على حساب دماء الأطفال والنساء في غزة.
نعم، لا يمكن إنكار أهمية الإفراج عن الأسرى وضرورة إنهاء معاناتهم، لكن استخدام المدنيين في غزة كورقة ضغط يضع علامات استفهام حول الأولويات الأخلاقية والوطنية، مما يدفع القيادة إلى إدراك أن الشعب الفلسطيني في غزة والضفة يشكل وحدة واحدة، وأن أي قرار يتعلق بملف الأسرى يجب أن يحترم حياة الأبرياء في القطاع.
وهذا السؤال بالضبط يجب أن يوجه إلى الحركة الأسيرة نفسها، في ظل هذه الظروف، لأن الأسرى هم رموز نضالية تحمل على عاتقها مسؤولية كبيرة تجاه الشعب الفلسطيني، ومن هنا، ينبغي أن يكون لهم دور واضح في توجيه النقاش حول ملفات الإفراج.
وفي ظل هذه الظروف، بات لزاما على الحركة الأسيرة أن تُصدر بيانا يوضح موقفها مما يجري، وأن تؤكد أنها لا تقبل أن يتم الإفراج عنها على حساب دماء الأبرياء في غزة. مثل هذا البيان سيكون خطوة مهمة لتوحيد الصف الفلسطيني، وإظهار أن النضال الفلسطيني هو نضال أخلاقي في جوهره.
إن المطلوب حاليا، موقف واضح من الحركة الأسيرة يدعو إلى توازن بين النضال من أجل الحرية وحماية أرواح المدنيين، وإعادة بناء الجبهة الداخلية، وأن تكون الضفة الغربية أكثر تفاعلا مع معاناة غزة، سواء على مستوى الدعم السياسي أو التضامن الشعبي.
كما أنه ينبغي على حركة حماس أن تدير ملف الأسرى بطريقة تحترم كرامة وحقوق الجميع، وألا تجعل من دماء الأبرياء ثمنا للحرية، بالإضافة الى ضرورة توحيد الموقف الوطني، عبر رؤية مشتركة بين جميع الفصائل الفلسطينية تضع مصلحة الشعب فوق أي حسابات سياسية.
نعود ونؤكد أن قضية الأسرى هي قضية وطنية بامتياز، لكنها لا يمكن أن تُحل على حساب أرواح الأبرياء في غزة، فالشعب الفلسطيني يستحق قيادة تعبر عن تطلعاته النبيلة، وتوحده في مواجهة الاحتلال بدلا من أن تتركه منقسما بين قطاع محاصر وضفة صامتة.
على الحركة الأسيرة أن تتحدث، وعلى الجميع أن يتحملوا مسؤولياتهم. فلا حرية حقيقية إذا كانت على حساب دماء الأبرياء..فهل وصلت الرسالة؟