تشكل الفجوة بين الجنسين في سوق العمل تحدياً كبيراً على الصعيد العالمي، ورغم ما تحقق من تقدم في ميدان حقوق المرأة، ما زالت النساء يواجهن صعوبة كبيرة في تحقيق المساواة مع الرجال في العديد من مجالات العمل.
ويظهر من خلال الأرقام والإحصائيات الحديثة، أن الفجوة بين الجنسين في العمل تتنوع بين الأجور، والفرص، والحقوق القانونية، وحماية النساء من العنف في مكان العمل، ورغم هذه التحديات، أثبتت النساء قدرتهن على التغلب على هذه الفجوات عبر آليات مختلفة، بدءاً من ريادة الأعمال وصولاً إلى الالتزام بالنضال من أجل المساواة.
في تقرير “المرأة وأنشطة الأعمال والقانون” الصادر عن مجموعة البنك الدولي لعام 2024، أظهرت النتائج أن النساء في جميع أنحاء العالم يحصلن على أقل من ثلثي الحقوق القانونية التي يتمتع بها الرجال في مكان العمل، وتشير البيانات إلى أن المرأة في المتوسط لا تحصل سوى على 64% من الحقوق التي يتمتع بها الرجل في العالم، وهو ما يقل بشكل كبير عن التقدير السابق الذي كان يقدر بـ77%.
ويتبين أن الفجوة القانونية تزداد سوءًا عند أخذ قوانين حماية المرأة ضد العنف أو قوانين رعاية الأطفال في الاعتبار، فالقوانين لا تقتصر فقط على ضمان الأجر المتساوي، بل تشمل أيضاً ضمان حقوق المرأة في تلقي الرعاية الصحية والتعامل مع القضايا الاجتماعية مثل العنف الأسري والتحرش الجنسي.
اقرأ أيضا.. الخطوة المتهورة لزعيم كوريا الجنوبية تثير اضطرابات في الداخل ومخاطر في الخارج
فجوة بين الجنسين
من ناحية أخرى، تُظهر الدراسات الأخيرة أن الفجوة في الأجور بين الجنسين لا تزال قائمة وبشكل كبير، ففي عام 2023 أظهرت دراسة أجرتها منظمة العمل الدولية أن النساء يكسبن في المتوسط 77 سنتًا مقابل كل دولار يتقاضاه الرجل في الوظيفة نفسها، وهي فجوة تتفاقم بمرور الوقت.
وأظهرت التقارير أن النساء أكثر عرضة للالتحاق بالوظائف ذات الأجور المنخفضة مقارنة بالرجال، ما يعزز الفجوة الاقتصادية بين الجنسين، ويستمر الوضع على هذا المنوال في أكثر من 70% من دول العالم، أما في مجالات القيادة، فإن النساء يشغلن فقط 27% من المناصب التنفيذية العليا في الشركات الكبرى، كما تشير بيانات المنتدى الاقتصادي العالمي لعام 2023، وهي نسبة تقل بشكل كبير عن التمثيل النسائي في القوى العاملة العالمية التي تصل إلى 40%.
وفي ما يتعلق بالحقوق القانونية التي تضمن المساواة بين الجنسين، فإن العديد من الدول لم تنفذ بعد الأنظمة اللازمة لضمان هذه الحقوق.. ووفقًا للتقرير ذاته من مجموعة البنك الدولي، فإن أقل من 40% من الدول قد أنشأت الأنظمة المناسبة التي تضمن تنفيذ قوانين المساواة بين الجنسين على أرض الواقع، على سبيل المثال، فرضت 98 دولة قوانين تضمن المساواة في الأجر بين الرجل والمرأة عن العمل المتساوي، ولكن لم تعتمد سوى 35 دولة فقط آليات لتطبيق هذه القوانين، ما يجعل الفجوة في الأجور بين الجنسين متسعة رغم وجود القوانين.
وتستمر الفجوة بين الجنسين في العديد من المجالات الأخرى مثل ريادة الأعمال، حيث يواجه الكثير من النساء تحديات كبيرة في الحصول على التمويل والدعم اللازمين لبدء مشاريعهن الخاصة، ووفقًا لدراسة أجراها البنك الدولي، فإن النساء يشكلن حوالي 30% فقط من إجمالي الشركات الناشئة في العالم، رغم أنهن يشكلن ما يقرب من 40% من قوة العمل العالمية، ومن جانب آخر، تشير البيانات إلى أن معظم الدول لا توفر الحوافز الضرورية لدعم النساء في هذا المجال، ما يحد من قدرتهن على تحقيق النجاح في ريادة الأعمال.
صعوبات وتحديات
وتواجه النساء صعوبات كبيرة في الوصول إلى فرص التدريب والتطوير المهني في العديد من الدول النامية، حيث لا يتم توفير برامج تعليمية متخصصة تناسب احتياجات النساء العاملات، ما يحد من فرصهن في الصعود إلى المناصب العليا، ووفقًا لتقرير صادر عن “مجموعة البنك الدولي” في 2023، يتبين أن النساء في المناطق الأقل تطورًا يحصلن على 50% فقط من فرص التدريب مقارنة بالرجال، وهذا الفارق يؤدي إلى ضعف تمثيل النساء في المجالات التقنية والعلمية، والتي تعتبر من أكثر المجالات التي تشهد نموًا في المستقبل.
رغم هذه التحديات الكبيرة، فإن النساء استطعن، من خلال المقاومة والصمود، التغلب على العديد من الفجوات بين الجنسين في العمل تمثل ريادة الأعمال أحد المجالات التي أثبتت فيها النساء قدرتهن على النهوض بأنفسهن واقتصاداتهن، في العديد من الدول، أسست النساء شركات ناشئة مبتكرة في مجالات متنوعة، من بينها التكنولوجيا، الرعاية الصحية، والتعليم، وعلى الرغم من الصعوبات، استطاعت النساء عبر الريادة التجارية أن يسهمن بشكل مباشر في زيادة الاستثمارات والتوظيف.
وتبين من خلال دراسة أجرتها شركة McKinsey في 2023، أن الشركات التي تديرها النساء تحقق في المتوسط أداءً أفضل مقارنة بتلك التي يديرها الرجال، فقد أظهرت النتائج أن الشركات التي تضم قيادات نسائية أكثر قدرة على الابتكار والنمو، ورغم التحديات المالية التي تواجهها النساء في مجال التمويل، فإن العديد من النساء استطعن بناء شبكات داعمة تجمع بين المستثمرين والمستثمرات، ما ساعد على تعزيز قدرتهن على تمويل مشاريعهن الخاصة.
على صعيد آخر، تعتبر سياسات الدعم الحكومي جزءًا أساسيًا من التغلب على هذه الفجوة.
وفقًا لدراسة صدرت عن المنتدى الاقتصادي العالمي في 2023، تبين أن الدول التي تبنت سياسات داعمة للمرأة، مثل توفير إجازات أمومة مدفوعة الأجر، وتقليل الفجوة في الأجور، حققت نتائج إيجابية في زيادة مشاركة النساء في القوى العاملة، وعلى سبيل المثال، في الدول التي تقدم إجازة أمومة مدفوعة الأجر، ارتفعت نسبة مشاركة النساء في سوق العمل بنسبة تصل إلى 10%.
وأظهرت البيانات أن زيادة تمثيل المرأة في المناصب القيادية وفتح أبواب الفرص لها يعزز بشكل كبير من نتائج المؤسسات الاقتصادية. فبناء على دراسة أجراها “معهد ماكنزي” في 2022، أظهرت أن الشركات التي تضم 30% من النساء في مجلس إدارتها تحقق أرباحًا أعلى بنسبة 15% مقارنة بتلك التي يهيمن عليها الرجال، وهذه الأرقام تدعم الفكرة القائلة بأن تعزيز تمثيل النساء في المناصب العليا ليس فقط خطوة نحو تحقيق المساواة، بل هو أيضًا طريق لتعزيز الأداء الاقتصادي العام.
ويأتي التعليم والتدريب كأدوات حيوية لتمكين النساء من التغلب على الفجوة بين الجنسين، من خلال توفير التعليم العالي والتدريب المهني، يمكن للنساء الوصول إلى فرص أفضل في سوق العمل، وتقلص الفجوات بينهن وبين الرجال، ووفقًا لتقرير صادر عن اليونسكو في 2023، تبين أن 70% من النساء في الدول التي استثمرت في تعليم الفتيات والنساء تمكن من الحصول على وظائف عالية الأجر، وهذا يبرز أهمية التعليم في تمكين المرأة وتوفير فرص متكافئة لها في العمل.
تحويل التحديات إلى فرص
شاركت الدكتورة سونداريا راجيش، مؤسِسة ورئيسة مجموعة “أفتار” الهندية، تجربتها الشخصية ورؤيتها حول كيفية تحويل التحديات التي واجهتها في مسيرتها المهنية إلى فرص للنجاح، وأكدت الدكتورة راجيش أن المرأة قادرة على تخطي العقبات التي تقف في طريقها، خاصة في المجالات التي كانت مغلقة في السابق أمامها.
وأوضحت راجيش، في تصريح خاص لـ”جسور بوست”: في مسيرتي المهنية، واجهت العديد من التحديات، ولكنني تعلمت أن التحدي ليس عقبة يجب تجاوزها، بل فرصة لإعادة التفكير في كيفية تحقيق النجاح، وأضافت أن النساء يمكنهن استغلال الصعوبات لدفع أنفسهن نحو الابتكار والإبداع، مشيرة إلى أن “القدرة على تحويل العوائق إلى فرص هي ما يميز النساء الناجحات في عالم العمل”.
وأشارت إلى أن التحديات التي تواجهها النساء في الهند والدول النامية تشمل الأعراف الاجتماعية وضغوط الحياة الأسرية، فضلاً عن الفرص المحدودة في بعض القطاعات، وقالت: “في مجتمعاتنا، يُتوقع من النساء التوفيق بين العمل والأسرة، وهو ما يمثل تحديًا كبيرًا. ولكن مع زيادة الوعي حول أهمية التوازن بين العمل والحياة الشخصية، يمكن للنساء التفوق في كلا الجانبين”.
وفي ما يتعلق بتأسيس مجموعة “أفتار”، أكدت أنها واجهت صعوبات في الحصول على التمويل والموارد في البداية، ولكنها تمكنت من تحقيق النجاح من خلال إصرارها على رؤية مشروعها وتقديم حلول عملية لدعم التنوع والشمولية في القوى العاملة، مضيفة أنه “كان من الصعب في البداية فهم الحاجة إلى التنوع في القوى العاملة، لكن مع مرور الوقت أصبح واضحًا أن هذه المبادرات تسهم في تحسين بيئات العمل وتعزز النجاح المؤسسي”.
وعن مستقبل المرأة في العمل، دعت سونداريا إلى تسريع الجهود لتوفير بيئات داعمة للنساء في جميع المجالات، وقالت: “من المهم أن نعمل على تفعيل السياسات التي تشجع النساء على التوجه نحو مجالات كانت في السابق مغلقة أمامهن مثل التكنولوجيا والهندسة والإدارة، ويجب أن تكون هناك بيئات مرنة ومتنوعة تتيح للنساء الفرصة للتألق وتحقيق إمكاناتهن الكاملة”.
وأتمت حديثها برسالة تشجيعية للنساء قائلة: “النجاح ليس حكرًا على الرجال فقط، نحن، كنساء، لدينا القدرة على مواجهة التحديات وتحويلها إلى فرص، وكل امرأة لديها القدرة على أن تكون رائدة في مجالها إذا كانت تملك العزيمة والوعي الكافي لدعم نفسها ومجتمعها”.
الوعي أداة تمكين المرأة
وفي السياق، قال مدير إدارة المواهب والثقافة في شركة الإمارات العالمية للألمنيوم كامبال ديفيد شافيريوس، إن الوعي هو أداة قوية في تمكين المرأة ومساعدتها على مواجهة التحديات المجتمعية والسياسية، خاصة في المناطق التي تعاني من النزاعات، وإن تعزيز الوعي لدى النساء يسهم بشكل فعال في تحويل الأزمات إلى فرص للنمو والتغيير، حيث يصبح التعليم والتثقيف أداة لتجاوز العقبات وتحقيق التوازن الجندري.
وتابع شافيريوس، في تصريحات لـ “جسور بوست”: تتجلى قوة الوعي في تمكين المرأة من التعرف على حقوقها القانونية والاجتماعية، ما يمكنها من النضال ضد العنف الموجه إليها أو ضد التمييز الذي قد تتعرض له في مختلف المجالات، والوعي هنا لا يقتصر فقط على المعرفة بالقوانين والحقوق، بل يمتد ليشمل فهمًا أعمق لدور المرأة في التغيير الاجتماعي والسياسي في مناطق النزاع، حيث غالبًا ما تكون النساء الأكثر تأثراً بالعنف والتهجير، ويصبح هذا الوعي مسألة حياة أو موت من خلال تمكين النساء بالمعرفة حول كيفية الدفاع عن أنفسهن وحماية حقوقهن، حيث يمكنهن مواجهة الظروف القاسية بفعالية أكبر.
وأكد شافيريوس أن القيادة النسائية تعد جزءاً من هذا الوعي، حيث يمكن للنساء، عندما يمتلكن الأدوات المعرفية المناسبة، أن يتخذن أدواراً قيادية سواء في السياسة أو في مجال الأعمال، منوهاً بأن تعزيز مشاركتهن في هذه المجالات يحتاج إلى بيئة داعمة تعمل على تعزيز مهاراتهن القيادية، خاصة في البيئات الصعبة مثل مناطق النزاع، كما يجب أن تتضمن برامج التأهيل الموجهة للنساء أبعادًا نفسية واجتماعية تساعدهن على التصدي للضغوط الناتجة عن الأوضاع السياسية المتوترة.
وأتم: إن تعزيز الوعي السياسي، من خلال برامج تعليمية وشراكات دولية، قادر على تغيير قواعد اللعبة لصالح النساء، إذ يمكن أن يقودهن لتطوير حلول مبتكرة ومستدامة لمشكلاتهن، ومساعدتهن في بناء مجتمعات قادرة على التعامل مع تحديات المستقبل.