هل نشهد تلاشي دور الأحزاب السياسية في تونس؟
سؤال جاء متأخرا أكثر من أربع سنوات.. فتلاشي دور الأحزاب بدأ يوم 13 أكتوبر 2019 عندما اختار التونسيون قيس سعيد رئيسا ومنحوه 2.7 مليون صوت من أصوات الناخبين.
إذا كانت ذاكرة بعض الجهات قصيرة، فان التونسيين لن ينسوا ولن ينسى معهم العالم يوم 13 أكتوبر 2019، وهو يرى التونسيين يختارون رئيسا مستقلا خاض غمار الانتخابات بتمويل ذاتي بسيط، رافضا المنحة المقدمة من الدولة للقيام بالحملة الانتخابية، واستند في حملته إلى مجموعة من المتطوّعين، ليفوز بأغلبية ساحقة ويبدأ عهدته رسميا في 23 أكتوبر 2019.
وبعد أقل من عامين في 25 يوليو 2021، منحه التونسيون ضعف هذه الأصوات بدعمهم القرارات التي اتخذها وقرّر بموجبها تجميد البرلمان ورفع الحصانة عن جميع النواب، وإقالة رئيس الحكومة هشام المشيشي من منصبه، مستندا إلى الفصل 80 من الدستور التونسي.
الحديث عن “شيطنة” الأحزاب، كلام باطل يراد به باطل، قد نختلف أو نتفق مع أفكار الرئيس سعيد حول نظرية إلغاء “الأجسام الوسيطة” في الحكم ومن بينها الأحزاب، إلا أننا لا يمكن أن نتهم الرئيس سعيد بـ”دعم” ما يقول البعض إنه “موجة شيطنة للأحزاب” بأيّ شكل من الأشكال. الأحزاب بأدائها الذي لم يرق إلى المستوى المأمول خلال ما بات يعرف اليوم بـ”العشرية السوداء”، أساءت إلى نفسها ولم يسئ إليها أحد.
يقول البعض إن الإجراءات التي اتخذها الرئيس سعيد مسؤولة عن تراجع العمل الحزبي والسياسي في البلاد، وذلك “بخلق ظروف غير مواتية للعمل الحزبي”. ولكن، متى كانت الأحزاب تعمل في ظروف مواتية ومريحة، إلا إذا كانت أحزاب خمس نجوم؟
هل أنستهم السنوات العشر في الحكم مصطلح “النضال الحزبي”. ليس هناك ما يشير إلى أن الأنظمة، حتى وإن كانت قمعية، نجحت يوما بكتم صوت أحزاب المعارضة. التذرع بالقيود لا يعفي تلك الأحزاب من تحمل مسؤولية تراجع أدائها.
في الحقيقة، مهمة الأحزاب في ظل الأنظمة الدكتاتورية أسهل، تكفي بعض الشعارات والوعود بتحويل مياه البحر إلى عسل، والقضاء على البطالة ورفع نسب النمو، للرفع من رصيدها وكسب ود الجماهير الشعبية.
ولكن من سوء حظ هذا الأحزاب، أن مياه الحكم تكذب السابحين في بحر الاقتصاد.
في ثورة 2011 خرج التونسيون لاستقبال قياديي المعارضة، سواء الخارجين من السجون أو من العائدين من المنفى، ومن بينهم زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي العائد بعد عشرين عاما قضاها في لندن، بنشيد “طلع البدر علينا”.
وأصبح الناشط والسياسي منصف المرزوقي الذي كان يعيش في فرنسا ويعمل طبيبا وأستاذا في جامعة ستراسبورغ، رئيسا لتونس بعد أن رشحته حركة النهضة، ليحصل على 153 صوتا من أصل 217 صوتا في المجلس التأسيسي، مقابل 3 أصوات لمنافسه المستقل المنجي الرحوي.
في عام 2019 تقدم المرزوقي مرة أخرى للمنافسة في الانتخابات الرئاسية، لكنه لم يحصل إلا على 3.1 في المئة من الأصوات في الدور الأول.. لقد صدر حكم الناخبين التونسيين ضده.
في الوقت نفسه حصل قيس سعيد، المستقل، حسب النتائج الرسمية التي أعلنتها الهيئة المستقلة للانتخابات، على نسبة 72.71 من أصوات الناخبين. منذ ذلك اليوم، 13 أكتوبر 2019، أعلنت تونس بدء تلاشي سلطة الأحزاب.
فماذا حقق قيس سعيد لتونس وعجزت عن تحقيقه الأحزاب التي سبقته إلى الحكم؟
الأحزاب في تونس وقعت ضحية الوعود التي راحت تغدق بها على التونسيين، ولم يتحقق منها خلال عشر سنوات من الانتظار شيء، بل ازداد الأمر سوءا، وكان لا بد من أن ينفضّ الناخبون من حولها، حتى اتحاد الشغل وهو منظمة نقابية، باتت مهددة بفقدان مصداقيتها عندما اقتربت من تخوم السياسة.
ورغم أن الوضع الاقتصادي في تونس لم يتحسن إلى الأفضل خلال السنوات الثلاث الأخيرة، بل يمكن القول، إن الوضع ازداد صعوبة، إلا أن ذلك لم ينل من شعبية الرئيس سعيد، التي تؤكد الأرقام تناميها.
كلمة السر هي الفساد، الذي أعلن الرئيس سعيد الحرب عليه.
طالما اشتكى التونسيون قبل عام 2011 وتذمروا من سلوكيات فئة ضيقة من المنتفعين، وكانت أقل انتظاراتهم من الحكام الجدد بعد الثورة أن يدفنوا ظاهرة الفساد إلى الأبد، وسرعان ما تفاجأوا أن شبكات الفساد تنامت وأصبحت أشد فتكا وأكثر تنظيما وضراوة.. وهذه حقيقة لا تخفى على أحد في تونس.
هناك من يأخذ على الرئيس سعيد اليوم التزامه الصمت، والإدلاء بأقل عدد ممكن من التصريحات، وهذا صحيح، فهو يفضل العمل على الكلام، ويعلم أن الشارع التونسي لا ينتظر سماع وعود لن تنفذ.
في ظروف اقتصادية صعبة ليس فقط على تونس، بل على دول العالم، يعمل الرئيس التونسي دون كلل أو ملل على جبهتين؛ جبهة محاربة الفساد، وجبهة تحسين الوضع المعيشي والاجتماعي للفئات المهمشة. ودائما يحرص على استخدام أقل عدد ممكن من الكلمات.
من أذهلهم صبر الشارع التونسي كل هذه السنوات، ننصحهم بجولة صغيرة في تونس.. لن يكون صعبا عليهم اكتشاف أن تونس أعلنت الحرب ليس فقط على الفساد بل على الإسراف أيضا.. لا فرق في ذلك بين ميسور وفقير.
الشارع التونسي انفض عن الأحزاب بإرادته، ولاكتساب ثقة الشارع ثانية، على الأحزاب التونسية أن تعيد اختراع نفسها، وأول ما تبدأ به هو استخدام أقل عدد من الكلمات، والامتناع عن إطلاق وعود لن يكون بمقدورها الإيفاء بها.