كثيرة هي الكلمات التي استخدمت خلال اليومين الماضيين لوصف الصفقة الرديئة التي يخطط ترمب لإبرامها مع الرئيس فلاديمير بوتين. وقليلة هي الكلمات التي استحوذت على مشاعر كثير من الناس، أكثر من الكلمات التي تفوه بها مسؤول بريطاني، قال إن الصفقة “تثير الغثيان”.
من المؤكد أن تصريحات ترمب ومناصره المذيع السابق في شبكة “فوكس نيوز” بيت هيغسيث الذي يشغل الآن منصب وزير الدفاع الأميركي، أثارت غضباً ويأساً في أوكرانيا وصفوف مؤيدي هذه البلاد. لكن التصريحات أكدت أيضاً، وبوضوح تام، ما كان واضحاً للدول الأوروبية الأعضاء في حلف شمال الأطلسي “ناتو” وكندا منذ عودة ترمب إلى البيت الأبيض: لم يعد من الممكن الوثوق بأميركا كحليف، أميركا التي أدت لـ80 عاماً مرت على نهاية الحرب العالمية الثانية دور ضامن الأمن الأوروبي.
لقد أوجدت الدول الأوروبية الأعضاء في “ناتو” من نواح كثيرة، الظروف لتنازل أميركا عن قيادة “العالم الحر” من خلال استعدادها لاستغلال السخاء الأميركي. يجب عليهم الآن أن يولوا الأولوية إلى مصالحهم وأن يعتنوا بأمنهم وأمن أوكرانيا. قال الجنرال [البريطاني ويليام] سليم عندما قاد قوات بلاده داخل ميانمار في مواجهة الغزو الياباني عام 1942 “ليساعد الله أولئك الذين يساعدون أنفسهم”.
لا يخلو من المفارقة أن استرضاء أميركا الجبان لبوتين يأتي في بداية مؤتمر ميونيخ للأمن (14-16 فبراير’شباط‘)، في تكرار لخيانة بريطانيا وفرنسا لتشيكوسلوفاكيا في ميونيخ عام 1938. قد يزعم ترمب المحب للمظاهر أنه سيد الصفقات، لكن من خلال التخلي عن سيادة أوكرانيا على أراضيها ورفض رغبتها في الانتساب إلى “ناتو” من دون التشاور مع الأوكرانيين ومع أوروبا، فإنه يعزز بضربة واحدة موقف بوتين ويظهر ضعفه.
لا يجدر بنا أن نندهش. كان ترمب هو من أسس لانهيار مهمة “ناتو” في أفغانستان عام 2021 من خلال صفقته مع “طالبان” عام 2020، التي استبعدت منها الحكومة الأفغانية أيضاً. كذلك خدم هيغسيث روسيا من حيث لا يدري من خلال استبعاد القوات الأميركية من أي جهد لإنفاذ خطط حفظ السلام، حين أشار إلى أن أية قوة أوروبية يجب أن تعمل من دون الضمان الأمني الأساس الذي ينص عليه البند الخامس من معاهدة واشنطن [الخاصة بحلف “ناتو”].
إقرأ ايضا :
كيف ينبغي لنا في أوروبا، إلى جانب كندا، أن نرد على ذلك؟ أولاً، يجب أن نرى روسيا كما هي على حقيقتها، وليس كما نرغب في أن تكون. مهما كانت فضائل روسيا الثقافية، هي دولة تتسم بالوحشية وحب الانتقام والميل إلى الإجرام لم تكن يوماً في تاريخها سوى إمبراطورية. الإمبريالية جزء لا يتجزأ من هويتها، تاريخ روسيا تاريخ توسع واستيلاء على الدول المجاورة وإجبارها على الخضوع الاستعماري حتى تبلغ ذروة توسعها فتتقلص، ثم تعاود الكرة من جديد. وثمة جزء لا يتجزأ من هذا كله، ومفاده الفكرة القائلة بأن أوكرانيا لا تملك الحق في الوجود كدولة ذات سيادة وأن روسيا لن تكون بالقدر الذي تستحقه ما دامت أوكرانيا مستقلة.
لا تخطئوا الظن، لن تتوقف روسيا عند أوكرانيا، وقد مهد ترمب، بكلماته، الطريق أمام ذلك. لقد خلق بمفرده الظروف التي تمكن بوتين من تحقيق أهدافه الرئيسة في السياسة الخارجية. أولاً، ضم الأقاليم الشرقية الأربعة لأوكرانيا وتشكيل حكومة تابعة له في كييف تنفذ طلباته. وهذا بدوره سيهيئ الظروف أمامه لاستهداف دول سوفياتية سابقة أخرى، مثل مولدوفا وجورجيا وحتى رومانيا.
ثانياً، إنجاز يالطا جديدة [في إشارة إلى لقاء الحلفاء في يالطا أواخر الحرب العالمية الثانية حين تقاسموا مناطق النفوذ في ما بينهم] تهيمن روسيا بموجبها، مرة أخرى، من خلال انحسار “ناتو” في أوروبا الشرقية والتخلي عن حلفائنا ليصبحوا جزءاً من إمبراطورية بوتين الجديدة. ثالثاً، تحييد “ناتو” وربما تدميره، فهو تحالف يعده بوتين تهديداً مباشراً لروسيا. رابعاً، فك ارتباط أميركا بالأمن والدفاع الأوروبيين.
ينبغي ألا نفاجأ. على رغم كل ذلك غرس ترمب بالفعل خنجراً في قلب تماسك الحلفاء بتهديداته لاثنين من الحليفين المخلصين في “ناتو”، بالاستيلاء على غرينلاند وضم كندا بوصفها الولاية الـ51.
لا يتعين على أوروبا وكندا أن تدركا فقط التهديد البعيد الأجل للأمن الذي تشكله روسيا على جانبي المحيط الأطلسي، لكن لا ينبغي لهما أيضاً تحت أي ظرف من الظروف أن تقبلا استرضاء أميركا لبوتين والتخلي عن أوكرانيا. إن مواقف القادة الأوروبيين، من رئيسة وزراء إستونيا السابقة الرائعة كايا كالاس التي تشغل الآن منصب مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي إلى الأمين العام لـ”ناتو” مارك روته، ووزير الدفاع البريطاني جون هيلي واضحة حتى الآن، لا استرضاء لبوتين ولا صفقة من دون موافقة أوكرانيا ومن دون دعم مستمر لأوكرانيا. ويحسب لكير ستارمر أيضاً تعبيره في صورة لا لبس فيها عن دعمه لعضوية أوكرانيا في “ناتو”.
لكن الحاجة تستدعي أكثر من ذلك. ويجب ترجمة الكلمات إلى “عمل فوري” كما كان تشرشل ليقول اليوم. ويجب على “ناتو” والاتحاد الأوروبي، من دون أميركا لكن بالاشتراك مع أوكرانيا وشركاء آخرين مثل أستراليا وكوريا الجنوبية، تصميم استراتيجية لدعم أوكرانيا وممارسة ضغط على روسيا كفيل بإفهام بوتين أنه لا يستطيع الحصول على ما يريده.
وهذا يعني أن تنسق الدول الأوروبية الأعضاء في “ناتو” الجهود لمنح أوكرانيا الوسائل العسكرية اللازمة. في كل مرة كان شركاء أوكرانيا يصعدون دعمهم، في الواقع، كان بوتين يلوح بالسيف النووي، وفي كل مرة كان يتراجع عن ذلك. تضاف إلى ذلك الذخيرة والدبابات والمدفعية والألغام وغيرها من القدرات اللازمة لأوكرانيا للدفاع عن نفسها.
وفي الوقت نفسه، يجب أن نعمل مع أوكرانيا لدعم الإصلاحات اللازمة لبناء جيش أوكراني نموذجي جديد، يمتلك القوة البشرية والقيادة والسيطرة والتدريب والخدمات اللوجيستية اللازمة لتحقيق تلك الأهداف. كذلك يتطلب الأمر من أوروبا تسخير عبقريتها التكنولوجية بكل طريقة ممكنة لتقديم قدرات جديدة تكفل التفوق الحربي إلى أوكرانيا، فضلاً عن التفكير في الطريقة التي سخرت بها أوكرانيا براعتها التكنولوجية مثل المركبات الذاتية القيادة والمسيرات الحديثة ووسائل الهجوم الممكنة بالذكاء الاصطناعي بدءاً بالاستخبارات والمراقبة وانتهاء بتوجيه الضربات.
في الأجل القريب، إذا حققت وساطة ما وقفاً لإطلاق النار، من المحتمل أن تدعو الحاجة إلى قوة تنفيذ تفرض السلام على امتداد الجبهة الأوكرانية الروسية التي يبلغ طولها ألف كيلومتر. ولا تصلح المهمة لقوة من قوات الأمم المتحدة التقليدية يرتدي أفرادها القبعات الزرق ويلوحون بالأعلام ويجري تجميعهم من أميركا الجنوبية أو آسيا أو أفريقيا. وسيحتاج تنفيذ وقف إطلاق النار إلى حجم قوات ودقة ونطاق لم يسبق لها مثيل في أوروبا منذ أيام الحرب الباردة، إلى جانب أحدث القدرات القتالية والقيادة والتدريب والتصميم على انخراط القوات في القتال على الأرض إذا لزم الأمر.
بالطبع، ثمة حقيقة مرة مفادها بأن كل ذلك سيكون مكلفاً، ستستنزف الموارد العامة إلى أقصى الحدود وستدعو الحاجة إلى قرارات سياسية وتضحيات صعبة. ومع ذلك، لن يفوق ذلك التضحيات التي قدمها بالفعل زملاؤنا الأعضاء في “ناتو” مثل بولندا وفنلندا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا. وخلاصة القول أن هذه القرارات يجب أن تتخذ الآن إذا أردنا أن نكون آمنين.
كإجراء فوري، يجب على المملكة المتحدة أن تأخذ زمام المبادرة في تشجيع البلدان الأوروبية الأعضاء في “ناتو” كلها على تبني اقتراح إستونيا وتخصيص 0.25 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لصندوق مكرس للدفاع عن أوكرانيا على امتداد الأعوام الأربعة المقبلة. ومن شأن هذا الاقتراح أن يولد نحو 150 مليار يورو.
قد يسخر ممارسو سياسة الاسترضاء في أوروبا من ذلك ويقولون إنه وهم، وغير ممكن من دون الولايات المتحدة. أنا لا أوافقهم الرأي. وبالطبع سيكون من الأفضل أن تكون الولايات المتحدة مشاركة، لكن الماضي قد مضى والعالم تغير تماماً، ولم يعد بإمكاننا الاعتماد على الأميركيين. وعلينا أن نساعد أنفسنا.
أوروبا غنية، ويبلغ الناتج المحلي الإجمالي للبلدان الأوروبية الأعضاء في “ناتو” 15 ضعف الناتج المحلي الإجمالي لروسيا، ولديها معاً الموارد اللازمة لتطوير القدرات العسكرية الضرورية لتلبية حاجاتها من دون دعم أميركي. لكنها ستحتاج إلى شجاعة وقيادة جريئة وتصميم حديدي لتحقيق ذلك. وسيحتاج الأمر أيضاً إلى وقت. ليس التأخير ممكناً. وأطلق مؤتمر ميونيخ المنعقد عام 1938 الإشارة لبريطانيا لتستعد للحرب العالمية الثانية. فليفعل مؤتمر ميونيخ 2025 الشيء نفسه لكن لتجنب حرب عالمية ثالثة. فقط عند فرض ردع بعيد الأجل في وجه روسيا يمكننا ضمان السلام لأجيال عديدة مقبلة.
نقلا عن إندبندنت