منذ اندلاع الثورة السوريَّة عام 2011، في إطار ما يعرف بثورات الربيع العربي، وجدت إسرائيل في حالة الفوضى الداخلية فرصة لتقليص نفوذ دمشق الإقليمي. استفادت في ذلك من ضعف الدولة السورية وانشغالها بأزماتها. ومع هذا، فإنها تظلّ قلقة من التهديدات الأمنية التي قد تنشأ على حدودها الشمالية، خاصة فيما يتعلق بالنفوذ الإيرانيّ، ونقل الأسلحة إلى حزب الله والجماعات المسلحة الأخرى التي قد تستغل الفراغ الأمني.
في ظل هذه التحديات، يبرز سؤال محوري: كيف يمكن لسوريا الخروج من دائرة الانشغال الذاتي المستمر؟ وكيف تستطيع القيادة السورية الجديدة تبني سياسات عقلانية تعزز السيادة الوطنية، وتدعم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتلعب دورًا محوريًا في القضايا العربية الكبرى، وعلى رأسها القضية الفلسطينية؟
يناقش المقال الأسئلة التالية:
كيف تتعامل إسرائيل مع سوريا لضمان استمرار ضعفها وانشغالها بنفسها؟ كيف تنظر إسرائيل إلى التهديدات الأمنية من الأراضي السورية، خاصة تلك المرتبطة بإيران وحزب الله، أو المجموعات التي قد تنشأ نتيجة للتطورات الحاصلة؟ وأخيرًا، كيف يجب على القيادة السورية الجديدة التعامل مع هذه التحديات؟ وهل يمكن بناء دولة ديمقراطية مؤسسية تنظر إلى هذه القضايا من منظور منطقي وعلمي يخدم مصلحة الشعب السوري؟
الإجابات عن هذه الأسئلة ستستعرض السياسات الإسرائيلية الحالية تجاه سوريا، مع تقديم رؤية لما ينبغي أن تكون عليه الإستراتيجية السورية المستقبلية.
أولًا: إبقاء سوريا منشغلة بنفسها
تنظر إسرائيل إلى سوريا كتهديد أمني مستمر حتى في ظل انشغالها بمشكلاتها الداخلية. هذا التصور دفعها إلى تبني إستراتيجية مدروسة تهدف إلى ضمان بقاء سوريا ضعيفة وغير قادرة على استعادة دورها الإقليمي. تعتمد هذه الإستراتيجية على استغلال الأزمات الداخلية السورية، وتعزيز حالة الانشغال، إضافة إلى التدخلات المباشرة عند الحاجة، واستخدام الضغط الدولي والعزلة الإقليمية؛ لضمان إضعاف سوريا على المدى الطويل.
بالنسبة لإسرائيل، استمرار الأزمات الداخلية في سوريا أداة فعالة لإضعاف الدولة السورية وإفقادها قدرتها على التأثير، خاصة في القضايا الكبرى. مواجهة النـظام السوري عسكريًا للثورة الشعبية، التي اندلعت عام 2011، دمرت البنية التحتية للدولة، وأضعفت مؤسساتها، وجعلتها غير قادرة على لعب أي دور محوري في القضايا الإقليمية. هذه الأوضاع جعلت سوريا أكثر انشغالًا بمشكلاتها الداخلية، وهو ما يخدم المصالح الإسرائيلية التي تستفيد من ضعف قدرة سوريا على التأثير في المشهد السياسي أو العسكري الإقليمي.
لكن إسرائيل لا تعتمد فقط على مراقبة هذا الانشغال الطبيعي، بل تتدخل بشكل مباشر لضمان استمراره. الغارات الجوية الإسرائيلية تُعد واحدة من أبرز أدواتها لتحقيق هذا الهدف، حيث تستهدف مواقع عسكرية تابعة للنظام السوري أو للقوى الإيرانية وحزب الله.
على سبيل المثال، خلال عام 2024، نفذ سلاح الجو الإسرائيلي غارات على مواقع إستراتيجية في دمشق وحلب، يُعتقد أنها مراكز لتخزين الأسلحة الإيرانية ومراكز لوجيستية. الهدف الرئيس من هذه العمليات هو منع إعادة بناء القدرات العسكرية السورية أو تعزيز النفوذ الإيراني في المنطقة.
تستغل إسرائيل أيضًا الوضع الداخلي المتدهور في سوريا لإبقائها في حالة من الانقسام والضعف. كما قلنا، فالمواجهة المسلحة بين الحكومة وقوات المعارضة أثرت بشكل كبير على البنية التحتية والمؤسسات الوطنية، وجعلت سوريا عاجزة على تمويل مشاريع إعادة الإعمار أو تحسين أوضاعها الداخلية.
تفكك الدولة وفقدان السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي أسهما في جعل النظام السوري أكثر هشاشة. هذا الوضع وفر لإسرائيل فرصة لتعزيز حالة الانقسام والضعف.
دعمت إسرائيل كذلك الثورات المضادة في المنطقة كجزء من إستراتيجيتها لضمان بقاء الأنظمة غير الديمقراطية منشغلة بمشكلاتها الداخلية. بالنسبة لها، وجود أنظمة ضعيفة وغير مستقرة يعزز فرصها لتقليص النفوذ السوري الإقليمي ويحول دون أي تهديد إستراتيجي مباشر.
وعلى الصعيد الإقليمي، استغلت إسرائيل حالة الفوضى لتعزيز علاقاتها مع بعض الدول العربية من خلال اتفاقيات التطبيع. هذه العلاقات ساعدت على زيادة عزلة النظام السوري سياسيًا وإقليميًا. بالإضافة إلى ذلك، دفعت إسرائيل نحو تعزيز العقوبات الدولية المفروضة على النظام السوري، مما زاد من صعوبة أي محاولات لإعادة الإعمار أو تحسين الوضع الاقتصادي.
الهدف الإستراتيجي لإسرائيل من كل هذه السياسات مزدوج. فمن جهة، تسعى إلى إبقاء سوريا غارقة في أزماتها الداخلية وغير قادرة على استعادة قوتها، ومن جهة أخرى، تعمل على منع تحولها إلى مصدر تهديد أمني جديد. هذه الإستراتيجية ليست عشوائية، بل تقوم على أدوات مدروسة تشمل التدخلات العسكرية، الضغط السياسي، والعزلة الدولية، بهدف ضمان تفوق إسرائيل الإستراتيجي وإضعاف أي محاولات سورية لاستعادة دورها الإقليمي.
إجمالًا، تُظهر هذه السياسات رغبة إسرائيلية واضحة في إبقاء سوريا ضعيفة وغير قادرة على التأثير في المعادلات الإقليمية. إسرائيل لا تستهدف فقط النظام السوري كخصم سياسي، بل تسعى إلى تقويض الدور الإقليمي لسوريا بشكل شامل، مما يفقدها ميزتها الإستراتيجية على المدى الطويل.
ثانيًا: القلق من التهديدات الأمنية
القلق الإسرائيلي من التهديدات الأمنية في سوريا ليس وليد اللحظة، بل يمثل امتدادًا لحقبة طويلة من التوترات الإقليمية. منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، وجدت إيران في سوريا فرصة لتعزيز نفوذها الإقليمي، مستغلة حالة الفوضى لتأسيس وجود عسكري قوي عبر مليشياتها، مثل: “فيلق القدس” و”حزب الله”. بالنسبة لإسرائيل، شكل هذا التواجد الإيراني تهديدًا مباشرًا، حيث تحولت الأراضي السورية إلى جسر لنقل الأسلحة المتطورة إلى “حزب الله”، الذي يمتلك ترسانة صاروخية قادرة على استهداف العمق الإسرائيلي.
في مواجهة هذا الخطر، اعتمدت إسرائيل إستراتيجية الضربات الوقائية المكثفة، منفذة مئات الغارات الجوية على أهداف إيرانية وأخرى تابعة لـ”حزب الله” داخل سوريا، حيث استهدفت مستودعات أسلحة ومراكز قيادة وقوافل تنقل أسلحة متطورة.
ورغم هذه الجهود، يظل القلق الإسرائيلي قائمًا، حيث ترى أن الهدف الإيراني يتجاوز مجرد تقديم الدعم التكتيكي لـ”حزب الله”، ليشمل ترسيخ وجود إستراتيجي طويل الأمد في سوريا يمكن أن يشكل جبهة تهديد جديدة على حدودها الشمالية.
ومع ذلك، فإن المخاطر التي تثير قلق إسرائيل لا تقتصر على التواجد الإيراني فقط.
فبسقوط النظام السوري وانسحاب إيران ومليشياتها، فإن الفراغ الأمني الناتج عن ذلك يفتح الباب لتهديدات جديدة، أبرزها الجماعات المسلحة. تفكك الدولة السورية وضعف سلطتها المركزية من شأنه أن يخلق بيئة خصبة لنشاط جماعات محلية وعابرة للحدود قد تستغل هذا الفراغ. وقد تُستخدم الأراضي السورية كقاعدة لشن هجمات على حدود إسرائيل، خاصة في الجولان المحتل.
علاوة على ذلك، فإن ترسانة الأسلحة المتبقية في سوريا بعد سقوط النظام تمثل تهديدًا إضافيًا بما تقدمه من فائض تسليح للجماعات المسلحة. حتى مع غياب إيران المباشر، يظل خطر تهريب الأسلحة إلى “حزب الله” أو جهات أخرى قائمًا، مما يعزز من القلق الإسرائيلي بشأن أمنها القومي.
إسرائيل تدرك أيضًا أن سقوط النظام السوري لا يعني بالضرورة نهاية النفوذ الإيراني. فقد تتبنى إيران إستراتيجيات غير مباشرة، مثل دعم وكلاء محليين أو تأمين طرق تهريب بديلة، لضمان استمرار تأثيرها في المنطقة. هذا السيناريو يجعل التحديات الأمنية لإسرائيل أكثر تعقيدًا، حيث تصبح المواجهة مع شبكة غير مركزية من التهديدات أكثر صعوبة من التعامل مع خصم مركزي واضح.
اقرأ أيضا| إسرائيل تحارب لإنقاذ الحضارة الغربية
هذه السياسات تمثل جزءًا من رؤية إسرائيل للحفاظ على تفوقها الأمني في منطقة مليئة بالتغيرات والمخاطر المحتملة، مع إدراكها أن الخطر قد يتغير في طبيعته، لكنه يظل قائمًا في ظل غياب الاستقرار الإقليمي.
ثالثًا: كيف تواجه القيادة السورية الجديدة ذلك؟
تواجه القيادة السورية الجديدة مجموعة من التحديات المصيرية التي تتطلب رؤية إستراتيجية شاملة لتحقيق الاستقرار الداخلي وتعزيز الدور الإقليمي. في ظل الطموحات الإسرائيلية التي تركز على تعزيز نفوذها الإقليمي، وتكريس احتلالها للأراضي الفلسطينية والجولان السوري المحتل، يصبح التصدي لهذه التحديات أمرًا ملحًا.
لذا، يجب على القيادة السورية الجديدة تبني خطوات عملية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني من خلال تعزيز المصالحة الوطنية وتوحيد الصف العربي لمواجهة الانتهاكات الإسرائيلية. كما يتعين تفعيل الدبلوماسية السورية لتسليط الضوء على قضايا الاحتلال وبناء تحالفات دولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني، بالإضافة إلى تعزيز المنظومة الدفاعية لمواجهة التهديدات الإسرائيلية.
إلى جانب ذلك، فإن إعادة بناء الدولة لتحقيق الاستقرار الداخلي تتطلب تحولًا جوهريًا في هيكلية الدولة. يتمثل ذلك في تعزيز الديمقراطية واحترام التعددية السياسية من خلال بناء نظام قضائي مستقل يضمن سيادة القانون، ومكافحة الفساد عبر تحقيق الحوكمة الرشيدة وتعزيز الشفافية في إدارة الموارد الوطنية بما يحقق عدالة التوزيع. علاوة على ذلك، يجب الاستثمار في البنية التحتية وإعادة الإعمار لتوليد فرص عمل وتعزيز الإنتاج المحلي، وتطوير الموانئ السورية كمراكز تجارية إقليمية تدعم الاقتصاد الوطني.
لا يمكن تجاهل أهمية تعزيز العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، والتي تشكل جوهر أي رؤية مستقبلية. لتحقيق ذلك، يجب ضمان الحريات الأساسية من خلال تعزيز حرية التعبير والمشاركة السياسية لجميع الأطياف، وتطبيق العدالة الانتقالية لمعالجة انتهاكات الماضي بآليات قانونية تحقق المصالحة الوطنية. كما ينبغي تحسين الخدمات الأساسية، مثل التعليم والصحة لتلبية احتياجات المواطنين وتعزيز الكرامة الإنسانية.
لتنجح القيادة السورية الجديدة في مواجهة هذه التحديات، يجب أن تتبنى رؤية متكاملة توازن بين إعادة بناء الدولة والتصدي للطموحات الإسرائيلية. إن تحقيق هذه الرؤية يتطلب إرادة سياسية قوية وخططًا عملية تعيد بناء الثقة بين الشعب والقيادة، وتضع سوريا على طريق استعادة دورها كمحور إستراتيجي في المنطقة. بذلك، تكون سوريا قادرة على مواجهة التحديات الإقليمية والدولية، وعلى رأسها الأطماع الإسرائيلية.