عندما اشتعلت النيران في كاتدرائية نوتردام عام 2019، لم يصدق كثيرون أن إيمانويل ماكرون قادر على الوفاء بوعده بالانتهاء من ترميمها بحلول نهاية هذا العام، ومع ذلك فقد نجح في حشد المتبرعين وجيش صغير من المرممين والحرفيين، وترميم وبناء هذه التحفة الفنية القروسطية خلال خمسة أعوام بعد أن كان استغرق بناؤها قروناً.
وكان من المفترض أن يكون حفل إعادة الافتتاح انتصاراً للرئيس ماكرون لا يضاهيه سوى صلوات الشكر التي أقامها الجنرال ديغول في الكاتدرائية نفسها احتفالاً بتحرير فرنسا في أغسطس (آب) 1944، أو تتويج نابليون نفسه إمبراطوراً هناك في ديسمبر (كانون الأول) 1804. أصغر رئيس دولة في فرنسا منذ نابليون الثالث كان يتوقع تتويجاً يليق به في هذا اليوم، وبدلًا من ذلك وجد المصرفي السابق الموهوب أنه بدلاً من ذلك قد طور حظ سيء يلاحقه أينما حل، فكل شيء يتعامل معه هذه الأيام يتحول إلى مشكلة، وعلى مدى الأشهر الستة الماضية تخبط ماكرون من انتكاسة إلى هزيمة تلو الأخرى، وهذه بلغت ذروتها في الشلل الحالي الذي يعانيه النظام السياسي الفرنسي.
وكانت النتائج السيئة التي حققها حزب “النهضة” الذي يتزعمه ماكرون في انتخابات البرلمان الأوروبي في شهر يونيو (حزيران) الماضي قد دفعته للدعوة إلى انتخابات باكرة للجمعية الوطنية الفرنسية، وسرعان ما خسر أنصاره غالبيتهم البرلمانية ومعها حكم فرنسا، ولم يتفق اليسار المتشدد واليمين المتشدد الفرنسيين على أي شيء في برامجهم السياسية سوى على العمل من أجل إعاقة ماكرون من خلال التصويت على إسقاط رئيس الوزراء الذي اختاره بعناية، أي ميشيل بارنييه، وإجراءاته التقشفية التي كان من المفترض أن تعيد إشعال روح المبادرة الاستثمارية في الاقتصاد الفرنسي، والعمل على خفض العجز الضخم الذي تعانيه الدولة الفرنسية، والذي من المتوقع أن يتجاوز ستة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
لذا فبدلاً من أن تعكس صورة الرئيس شخصية الجنرال ديغول التاريخية، باعتباره الضامن لاستقرار الجمهورية الخامسة، أصبح ماكرون تجسيداً للفشل والفوضى المتجذرة في النظام السياسي الفرنسي.
ومن المؤكد أن فرنسا مهمة للغاية كجار رئيس للمملكة المتحدة بصورة لا يمكن معها قيام بريطانيا في تجاهل آلامها، ولا يمكن لبريطانيا أو جيران فرنسا، مثل ألمانيا، أن تتجاهل مدى تشابه مشكلات كل دولة مع مشكلات الرئيس إيمانويل ماكرون.
في جميع أنحاء القارة الأوروبية لم تعد الأحزاب التقليدية من يسار الوسط أو يمين الوسط قادرة على الفوز بما يكفي من الأصوات لتشكيل حكومة بمفردها، أو أن تكون قادرة على تشكيل ائتلاف متماسك تترأسه.
لقد انهار الائتلاف الثلاثي المتزعزع في ألمانيا المكون من الاشتراكيين الديمقراطيين وحزب الخضر وحزب الليبرالي المؤيد لحرية السوق المطلقة، في أعقاب النجاح الباهر الذي حققه حزب “البديل من أجل ألمانيا” القومي في الانتخابات الإقليمية التي أُجريت أخيراً، وكانت تلك النتائج تعبيراً عن الاستياء من الانكماش الاقتصادي الحاد في البلاد بقدر ما كانت تلك النتائج انعكاساً لتبني حزب “البديل من أجل ألمانيا” سياسات مناهضة لمسألة الهجرة، وتشير تلك النتائج أيضاً إلى أنه سيكون من الصعب على الحزب المسيحي الديمقراطي المنتمي إلى “يمين الوسط” تشكيل ائتلاف تقليدي في برلين بعد انتخابات فبراير (شباط) المقبل.
وفي الضفة الشرقية من أوروبا برزت مشكلة سياسية أخرى تمثلت في الأزمة التي تواجهها رومانيا بعدما قامت المحكمة الدستورية فيها بإلغاء نتائج الانتخابات الرئاسية في البلاد، إذ بدا من المرجح أن يفوز مرشح قومي مناهض للاتحاد الأوروبي وحلف الـ “ناتو”.
للوهلة الأولى خالفت النتائج الساحقة التي حققها حزب العمال في انتخابات بريطانيا العامة يوليو (تموز) الماضي الاتجاه السائد في الاتحاد الأوروبي، ولكن مع الهبوط الحاد في شعبية كير ستارمر منذ ذلك الحين، إضافة إلى التراجع السريع لنسب تأييد حزب العمال، وفق أرقام استطلاعات الرأي، فيبدو أن بريطانيا “ما بعد بريكست” تتماشى مشاعر مواطنيها مع المشاعر المتقلبة لمواطني الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تجاه المزاج العالم حول الطبقة الحاكمة في بريطانيا.
في الواقع تعاني جميع اقتصادات دول أوروبا الغربية التي كانت دول صناعية في يوم من الأيام أعراضاً مماثلة، بما في ذلك نزف الوظائف ذات المهارات العالية، في وقت يخاطر فيه المهاجرون من دول جنوب الصحراء الأفريقية والشرق الأوسط بحياتهم للوصول إلى شواطئ أوروبا وبريطانيا.
إقرأ أيضا : هل ستستغل روسيا طرد فرنسا من تشاد للتموضع؟
إن تراجع نسب الثراء هو المفتاح ربما لتغير المواقف العامة تجاه مسائل الهجرة في دول أوروبا الغربية التي لا تزال تشكل [اقتصاداتها] نقطة جذب للأشخاص من جنوب الكرة الأرضية، والواقع أن أوروبا، بما في ذلك بريطانيا، محاصرة باعتبارها الوحدة الاقتصادية الثالثة في العالم بين أكبر وحدتين اقتصاديتين في العالم، أي بين كل من الولايات المتحدة الأميركية والصين، وهذا الأمر جلي إلى حد كبير من خلال طرق تعاملنا مع السباق نحو إزالة الكربون من الاقتصاد العالمي.