وحيدا يجد المهندس عبدالحميد الدبيبة نفسه في مواجهة العاصفة، تخلّى عنه الجميع، ولم يعد أمامه إلا التخلي عن عناده، والاعتراف بضرورة الاستقالة من منصبه كرئيس لحكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها، وبالتالي فسح المجال أمام تشكل الحكومة الجديدة الموحدة التي ستتولى إدارة البلاد خلال المرحلة القادمة وتوفير الظروف الملائمة لتنظيم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي طال انتظارها.
من القاهرة جاء البيان الصادر عن اجتماع رئيس مجلس النواب المستشار عقيلة صالح، ورئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، ورئيس المجلس الأعلى للدولة محمد تكالة تحت رعاية جامعة الدول العربية، والذي كان الهدف منه تقريب وجهات النظر، وحل النقاط الخلافية المتعلقة بالوصول إلى الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.
خرج الاجتماع بتوافقات مهمة تقدم حلولا للأزمة السياسية في ليبيا، من بينها التأكيد على سيادة ليبيا واستقلالها ووحدة أراضيها، ورفض أيّ تدخلات خارجية في العملية السياسية الليبية، كما اتفق المجتمعون على تشكيل لجنة فنية خلال فترة زمنية محددة، للنظر في التعديلات المناسبة لتوسيع قاعدة التوافق والقبول بالعمل المنجز من لجنة (6 + 6)، وحسم الأمور العالقة حيال النقاط محل الخلاف حسب التشريعات النافذة، وشدّدوا على ضرورة تشكيل حكومة موحدة، مهمتها الإشراف على العملية الانتخابية، وتقديم الخدمات الضرورية للمواطن، مع توحيد المناصب السيادية وتفعيل دورها على مستوى الدولة الليبية، ودعوا بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا والمجتمع الدولي لدعم هذا التوافق في سبيل إنجاحه، وعقد جولة ثانية بشكل عاجل لإتمام هذا الاتفاق ودخوله حيز التنفيذ.
محافظ مصرف ليبيا المركزي الصديق الكبير دعا هو الآخر إلى تشكيل حكومة جديدة بعد أن تبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وتأكد من أن الوضع يجب ألا يستمر على ما هو عليه.
هذا البيان يعتبر طعنة نجلاء في ظهر الدبيبة، وخاصة من شخصيتين مهمتين شاركتا في الاجتماع، وهما المنفي وتكالة اللذين طالما اعتقد أنهما قريبان منه، أو يتفقان معه على البقاء في منصة الحكم إلى أجل غير مسمّى. علينا أن نتذكر أن الدبيبة كان وراء الدفع بتكالة إلى رئاسة مجلس الدولة في أواخر أغسطس الماضي مقابل الإطاحة بخالد المشري الذي كان من كبار المتحمسين لفكرة تشكيل حكومة جديدة بدل الحكومة المنتهية ولايتها. كذلك لا ننسى أن المنفي وصل إلى منصب رئيس المجلس الرئاسي بعد ترشحه ضمن قائمة الدبيبة التي احتاجت تكلفة غالية لتحصل على أغلبية الأصوات في ملتقى الحوار السياسي بجنيف في فبراير 2021.
لكن الدبيبة يدرك أن السياسة لعبة توازنات ومصالح، وأن قرار سحب البساط من تحت قدميه صدر فعليا من القوى الكبرى المؤثرة في الملف الليبي، فمجلس الأمن الدولي أعلن التزام أعضائه بدعم الحوار الليبي الشامل، الذي يهدف إلى “تشكيل حكومة ليبية موحدة”، قادرة على الحكم في جميع أنحاء البلاد، وتمثيل الشعب الليبي بأكمله وهدد بفرض عقوبات على كل مَن يعرقل إجراء انتخابات طال انتظارها في ليبيا، مطالبا جميع الأطراف بالمشاركة في المسار السياسي دون شروط.
المبعوث الأميركي الخاص إلى ليبيا السفير ريتشارد نورلاند، أكد على أهمية تشكيل حكومة تصريف أعمال لإزاحة العقبات المتبقية أمام إجراء انتخابات عامة في البلاد. المبعوث الأممي للدعم في ليبيا عبدالله باتيلي، حث الأطراف السياسية في البلاد على تشكيل حكومة موحدة جديدة، تقود ليبيا نحو انتخابات رئاسية وبرلمانية. أغلب دول الاتحاد الأوروبي أعلنت سواء في السر أو في العلن دعمها لضرورة تشكيل الحكومة الجديدة بدل الحكومة المنتهية ولايتها.
دول الجوار كذلك، رحّبت بأيّ خطوة في اتجاه الانتهاء من مسلسل “الدبيبة والكرسي” والخروج من دوامة الصراع على السلطة في ظل الدكتاتوريات الناشئة، إلى فضاء أرحب وهو تنظيم الاستحقاقات الانتخابية بما يمنح الشعب الليبي الفرصة للتعبير عن إرادته الحرة عبر صناديق الاقتراع واختيار من سيحكمونه خلال المرحلة القادمة.
الاجتماع خرج بتوافقات مهمة تقدم حلولا للأزمة السياسية في ليبيا، من بينها التأكيد على سيادة ليبيا واستقلالها ووحدة أراضيها، ورفض أيّ تدخلات خارجية في العملية السياسية الليبية.
مجلس النواب كان أكثر المتمسكين بضرورة الإطاحة بالدبيبة وهو الذي منحه الثقة قبل ثلاث سنوات (كان ذلك في 10 مارس 2021)، وسحبها منه في 21 سبتمبر من العام ذاته، ويعتبره اليوم دون صفة، ولا يعترف إلا بالحكومة المنبثقة عنه التي يرأسها أسامة حماد. هناك كذلك حراك شعبي واسع في مدن كمصراتة وطرابلس والزاوية وبني وليد والزنتان وغريان للمناداة بضرورة طي صفحة حكومة “الباش مهندس” إلى الأبد. اجتماع تونس بين أكثر من 120 نائبا عن مجلسي النواب والدولة، توصل بدوره إلى ضرورة اختيار رئيس الحكومة الجديدة من خلال آلية شفافة ونزيهة تؤسس على خارطة الطريق المقدمة من قبل لجنة (6+6) بالتوافق بين المجلسين ورعاية البعثة الأممية .
محافظ مصرف ليبيا المركزي الصديق الكبير دعا هو الآخر إلى تشكيل حكومة جديدة بعد أن تبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وتأكد من أن الوضع يجب ألا يستمر على ما هو عليه، وإلا فإن الجميع في خطر، الدولة والمجتمع والثروة والأمن والاستقرار. ربما ذلك الموقف كان أهم مؤشر على أن الدبيبة خسر جميع أصدقائه والمدافعين عنه وحتى المستفيدين منه، وأصبح في عين العاصفة، فالكبير كان خلال السنوات الماضية ولا يزال الشخصية المحورية في المشهد الليبي وصاحب شبكة علاقات دولية متشعبة من لندن إلى أنقرة ومن طوكيو إلى باريس ومن أبوظبي إلى واشنطن، وبالتالي فإنه يدرك جيدا اتجاهات البوصلة.
انتهى الجميع إلى قرار غير قابل للاستئناف أو النقض وهو الضغط على الدبيبة من أجل الدفع به إلى القبول بالأمر الواقع مقابل ضمانات سياسية وقانونية، وسيكون من حقه الترشح للرئاسيات، رغم أن لا أمل له في تحقيق أيّ نتائج إيجابية، فشخص مثله لا يستنبط قوّته إلا من كرسي السلطة الذي يتربع عليه، وما حدث في ملتقى الحوار السياسي لن يتكرر باعتبار أن الظروف غير الظروف، والتأثير على عشرات الأفراد ليس كالتأثير على الملايين من الناخبين.
المشكلة الآن: ماذا بعد استبعاد الدبيبة والمجيء بحكومة جديدة؟ هل سينتهي الصراع وتتوحد المؤسسات ويتم إجلاء القوات الأجنبية والمرتزقة؟ هل ستتحقق المصالحة وتحل الميليشيات وتنجح الدولة في جمع السلاح واحتكار العنف وتأمين سيادتها على حدودها ومقدراتها؟
كل ذلك ستجيب عنه الأيام والأشهر القادمة سواء بالسلب أو بالإيجاب.