اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان دخل حيز التنفيذ أخيرا، بعد همس كثير تناقله مسؤولون ببيروت وواشنطن وتل أبيب، تحدثوا فيها عن ورقة تفاهمات لوقف الآلة العسكرية الإسرائيلية، وتحييد لبنان عن “بنك أهداف نتنياهو” في حرب مفتوحة كلفت المنطقة الكثير.
بعد عام ونحو شهرين من حرب إسناد غزة، و66 يوماً من حرب نتنياهو على حزب الله “ذراع إيران الأقوى” في المنطقة، يلوح قادة إسرائيل بـ “سلام مؤقت” مع لبنان منهك من حرب واسعة شنتها آلة الحرب الإسرائيلية على كامل لبنان لإبعاد ما سمته بخطر “حزب الله” عن الحدود، حاول من خلاله نتنياهو تمرير مخططه بفرض نظام إقليمي جديد.
نصر “وهمي”
نتنياهو اعتبر أن الاتفاق السياسي لوقف إطلاق النار سيعيد تموضع قواته العسكرية بعد أشهر من القتال على أكثر من جبهة حرب، متذرعا بأهمية إعطاء ما سماها “الراحة” لجنوده، ومُسوقاَ لنصر مزعوم من أبرز أهدافه فصل الساحات وعزل حركة “حماس”.
خلفيات التسوية مع حزب الله، جاء بعد وساطة أمريكية فرنسية، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من “مغامرة” نتنياهو بجبهة لبنان في محاولة لاحتواء الصراع وعدم توسعه إلى حدود أخرى بالمنطقة.
وكلفته بتدمير أكثر من 9 آلاف مبنى و7 آلاف مركبة في شمال إسرائيل بفعل نيران حزب الله، فيما دفعت الحكومة الإسرائيلية حتى الآن 140 مليون شيكل (38.4 مليون دولار) تعويضات للأضرار، بحسب ما كشفته تقارير إعلامية إسرائيلية.
محاولة نتنياهو الذي تلاحقه مذكرات اعتقال، ببعث رسائل نصر زائفة للداخل الإسرائيلي، يأتي بعد قناعة تفيد باستنفاد القتال دون تحقيق أهداف الحرب في لبنان وفشله في القضاء على حزب الله، الأمر الذي قد يفضي إلى الدخول إلى حرب استنزاف طويلة الأمد في الجنوب اللبناني، وهو ما يتقاطع مع رغبة المجتمع الإسرائيلي الذي ينتظر وعود نتنياهو بنصر عظيم.
فرصة للبنان!
لا يمكن الحديث عن وقف إطلاق النار من دون قراءة المشهد اللبناني الجديد، فالاتفاق السياسي ينظر إليه كوصفة نجاة بعد دمار وشلالات دم ألحقته آلة الحرب الإسرائيلية بغطاء ودعم أمريكي، أسفر إجمالا عن 3754 قتيلا و15 ألفا و626 جريحا، بينهم عدد كبير من الأطفال والنساء، فضلا عن نحو 1.4 مليون نازح، وفق بيانات لبنانية رسمية.
ولهذا فاليوم التالي للحرب، لا يبحث فيه اللبنانيون عمن خرج منتصرا أو مهزوما من هذه الحرب الشعواء، بل ما يتطلعون إليه فعلا هو “إسناد لبنان” وإعادة ترتيب الداخل اللبناني على ضوء المعطيات الجديدة بموجب “الهدنة المؤقتة”، من أهم بنودها الانسحاب التدريجي لإسرائيل من جنوب لبنان خلال 60 يوماً، مقابل انسحاب كامل وفوري لحزب الله إلى شمال نهر الليطاني، فيما سيبدأ الجيش اللبناني انتشاراً تدريجياً في الجنوب لضمان عدم إعادة تشكيل حزب الله لبنيته التحتية هناك، تحت إشراف لجنة خماسية بقيادة واشنطن.
إقرأ أيضا : العراق بين أكاذيب الماضي و”تريند” الحاضر وضباب المستقبل
هذه المرحلة الجديدة التي سيدخلها لبنان على وقع قبول حزب الله شروطها في الربع الساعة الأخير، فبعد أن كان أمينها العام الراحل حسن نصر الله، يرفض رفضا قاطعا أي تسوية مع إسرائيل قبل تسوية جبهة غزة، يرى مراقبون لبنانيون أن “اتفاق التنازلات” الجديد ليس سوى مرحلة تمهيدية لفصل الجبهة الجنوبية عن غزة، خصوصا بعد أن فقد الحزب معظم قادة الصفين الأول والثاني، بدءا بأمينه العام نصر الله وأبرز قادته السياسيين والعسكريين، وجزءا كبيرا من ترسانته العسكرية، وربما هذا ما يفسر قبول الحزب بما لم يكن يقبل به من قبل.
لا شك أن قبول الحزب بورقة الهدنة ستمنحه الوقت الكافي للالتقاط أنفاسه وإعادة بناء نفسه، إلى جانب مراجعة تجربة الحرب في إدارة الصراع مع إسرائيل، التي أفقدته أوراقا كثيرة في المشهد السياسي اللبناني بموجب القرار 1701 بصيغته الجديدة، بمنعه من العودة إلى مواقعه في الجنوب وبناء قوته العسكرية هناك، وهذا ما سيفرض واقعا لبنانيا جديدا.
ظل إيران في التسوية
وقف إطلاق النار بجبهة لبنان لم يكن ليكون ممكنا من دون موافقة إيرانية، فحسب تقارير إعلامية غربية، فإن إيران كانت المفاوض الخفي بورقة التسوية مع حزب الله، رغم خروج نتنياهو للتلويح بإزالة التهديد الإيراني كعامل ضغط عليها لتعديل سياساتها الإقليمية.
في وقت تبحث فيه طهران عن تهدئة مع واشنطن والغرب وإعادة التفاوض بشأن ملفها النووي، وهو ما يثبت حاجة إيران إلى الولايات المتحدة في المرحلة المقبلة من حكم دونالد ترامب.
وقف النار في لبنان ثمنه كان ثقيلا داخليا وإقليميا، وبعيوبها تبقى “الهدنة الرمادية” فرصة للبنانيين للنهوض من تحت ركام الحرب، ربما سيهدئ الاتفاق نيران المنطقة المشتعلة، لكن لا يمكن الجزم مطلقا بأنها ستحل الحرب الأكثر دموية (حرب غزة) في القرن الحالي.