ملفات فلسطينية

اتفاق أوسلو والإسقاط النفسي

بالعودة إلى اتفاق أوسلو، فمن الضروري التذكير أنه قام بتحرير عشرة آلاف أسير، دون الحاجة إلى خطف أيّ إسرائيلي، ودون خوض أيّ حروب أو نزف قطرة دم واحدة أو هدم حائط واحد، وأعاد عشرات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم الأم. أوسلو سيء الذكر

ربما لا أبالغ عندما أقول إن اسم العاصمة النرويجية أوسلو هو أكثر اسم تكرر ويتكرر على شفاه الفلسطينيين إلى يومنا هذا، رغم مرور ثلاثين عامًا على توقيع الاتفاق المرحلي. ولعل هذا الاسم يعتبر كناية عن التفريط والتضييع والتخوين والتكفير في نظر المزايدين، بل هو تهمة بحد ذاته. فعندما يتم نعتك بأنك من أنصار اتفاق أوسلو، فهو شتيمة وعار يتتبعك بعين البعض وكأنك ارتكبت إثمًا عظيمًا ويتوجب عليك التكفير عنه.

ولكن اتفاق أوسلو اليوم بكل بساطة ووضوح أضحى كناية عن الدهاء والواقعية بسبب سقوط الأوهام الذي سبقه سقوط الأقنعة وسقوط المحاور والعناوين البراقة (وحدة الساحات) مع استحالة تحرير شبر من أرض فلسطين عبر العنف الثوري. ليس هذا فقط، بل سيخسر الفلسطيني الشبر الذي يعيش فيه، فالخسارة مضاعفة ومقترنة بالمجازر والدمار والجوع والتشريد والنزوح المتكرر كما يجري في قطاع غزة حاليًا

وتجدر الإشارة هنا إلى أن عامي 1993 و1994 قد شهدا حركة نقد واسعة للتجربة النضالية الفلسطينية المعاصرة لم تعرف الساحة الفلسطينية مثيلاً لها من قبل. وفي العامين الماضي والحالي عادت حركة النقد إلى الساحة الفلسطينية وهي أقل وطأة عنها حين تم توقيع اتفاق أوسلو. والسبب المباشر هو رفض غالبية الكتاب والمحللين وتأجيلهم توجيه النقد لحركة حماس خلال المعركة، بل يرون أنه يجب تجميد هذا النقد حتى وقف شلالات الدم، مع أن كل من كتائب القسام التابعة لحركة حماس وسرايا القدس التابعة لحركة الجهاد لا يخوضان المعارك لوحدهما، بل هناك حضور فاعل لفصائل منظمة التحرير الفلسطينية مثل كتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة فتح وكتائب الشهيد عمر القاسم التابعة للجبهة الديمقراطية، وهي حركات سبقت حماس والجهاد بالعنف الثوري بعشرات السنوات.

والغريب أن حركات الإسلام السياسي الفلسطينية لا تتوانى عن مواصلة النقد السلبي لاتفاقية أوسلو التي أكل الدهر عليها وشرب، وانتهت منذ عقود حسب تصريحات كبار مسؤولي السلطة الوطنية الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية. اتفاقية أوسلو التي أفشلتها إسرائيل وحماس، الأولى بالاستيطان والاقتحامات المتكررة للضفة الغربية وقرصنة أموال المقاصة وتهرّبها من استحقاقاتها، والثانية بانقلابها المشين الذي سيظل وصمة عار على جبينها إلى يوم القيامة.

إن حال رافضي اتفاق أوسلو اليوم يثير الشفقة والسخرية في آن معًا. فهم من كانوا يصدّعون رؤوسنا بتحرير فلسطين من رأس الناقورة إلى أمّ الرشراش، ومن أمّ الرشراش إلى رأس الناقورة. منذ بداية حرب الإبادة الشاملة على قطاع غزة البريء، ارتفع صراخ هؤلاء، ومنهم من هتف مبشرًا بالنصر القادم الذي بات قاب قوسين أو أدنى، ويتحدث بطريقة منفصلة عن الواقع تمامًا أو يقوم بإهداء هذا النصر الساحق. أضحى هؤلاء يتقلبون بين حالتين، إما يبشرون أو يتهادون النصر المؤزر. هم مثار للسخرية والتهكم والتندر، وبالتحديد من أهلنا في قطاع غزة الكسير.

يرفض البعض مصطلح الهزيمة، مع العلم أن هذا الاعتراف لا ينافي تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف. فقد تعلمنا منذ نعومة أظافرنا أن المسلمين خسروا في معركة أحد ولم ينتصروا. وهل تجرأ داعية إسلامي من قبل على قلب المفاهيم والحقائق واعتبر خسارة معركة أحد نصرًا عظيمًا!

يحمّل هؤلاء اتفاق أوسلو ما لا يحتمل وما لا علاقة له بما يحدث حاليًا من مجازر لحرف النظر وتشتيت الانتباه عن أخطاء وخطايا من وضعوا رأس الشعب الفلسطيني في فم التنين. ليس هذا فقط، فكل مجزرة ترتكب وكل اغتيال لقيادي يتم بعده مباشرة مهاجمة أوسلو والقيادة الفلسطينية، وبعد كل تقدم دبلوماسي لهذه القيادة تتم مهاجمتها وتخوينها. وخير شاهد على ذلك تقرير قناة الأقصى، الذراع الإعلامية لحركة حماس، وهو تقرير تلفزيوني مليء بعبارات التخوين والعمالة للقيادة الفلسطينية بعد خطاب الرئيس الفلسطيني في البرلمان التركي وإعلانه العزم على التوجه إلى المحافظات الجنوبية. تخرج هذه الفقاعات الإعلامية التي تدعمها قنوات تلفزيونية تعمل لصالح دول عربية إقليمية، لتغطي على سقوط العناوين الكبيرة مثل (وحدة الساحات).

حقيقة، أكثر ما لفت انتباهي هو تكرار اسم اتفاق أوسلو على لسان هؤلاء بعد كل حدث جلل ممّا يشي بوجود حالة مرضية ألا وهي “الإسقاط النفسي”. فكل شيء سيء يحدث سببه اتفاق أوسلو، لا بسبب انقلاب حماس الأسود الذي اتخذت من الاتفاق السالف سبيلاً للتخوين والتكفير وتحليل دماء أبناء شعبها الفلسطيني المنتسبين للسلطة الوطنية الفلسطينية. هذا الانقلاب الذي كان مدخلاً مهمًا لتطبيق غزوة طوفان الأقصى، هذا الانقلاب الذي رفضت السلطة مواجهته لحرمة الدم الفلسطيني وحفاظًا عليه وكون هكذا مواجهة ستودي بحياة الكثيرين. فحقنًا للدماء ارتكبت السلطة هذا الخطأ الذي يدفع الشعب الفلسطيني ثمنه إلى اليوم، ولكن وللأسف سالت دماء أكثر بكثير.

وبالعودة إلى اتفاق أوسلو، فمن الضروري التذكير أنه قام بتحرير عشرة آلاف أسير، دون الحاجة إلى خطف أيّ إسرائيلي، ودون خوض أيّ حروب أو نزف قطرة دم واحدة أو هدم حائط واحد، وأعاد عشرات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم الأم. أوسلو سيء الذكر، باشر ببناء مرفأ ومطار في قطاع غزة وتم افتتاح المطار في العام 1998 وتم وضع أسس بناء دولة مستقلة وفتح باب المساعدات العالمية لتطفح الخزينة الفلسطينية، وليتم بناء الأبراج في غزة حتى سمّيت سنغافورة العرب، وها هي اليوم لا تشبه أحدًا إلا نفسها.

إقرأ أيضا : هاريس… مبدأ أم شعار للسياسة الخارجية؟

اتفاق أوسلو أعاد القضية الفلسطينية إلى الواجهة بطريقة سلمية، وانشغل كبار الساسة واكتظت كبريات الصحف العالمية بالحديث عنه وعن حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المنشودة على حدود الرابع من يونيو. وللتذكير فقط، فإن الشهيد ياسر عرفات ورفاقه استعادوا حسب الاتفاق آنف الذكر 22 في المئة من فلسطين التاريخية، وأندادهم السياسيون اليوم ومن قاموا مرارًا وتكرارًا بشتمهم وتخوينهم جهارًا نهارًا يفاوضون على أدنى أكثر بكثير من 1 في المئة من فلسطين التاريخية. هم يفاوضون على ممر نتساريم ومحور فيلادلفيا، وأقصى أمنياتهم اليوم هو انسحاب الاحتلال منهما. وهم يعتمدون بشكل شبه كلي على الموقف المصري الرسمي الرافض لوجود قوات الاحتلال في أيّ من هذه المناطق المذكورة آنفًا. وبصريح العبارة، إن حدث أيّ تقدم في هذا المجال فالفضل كل الفضل يعود إلى الموقف الرسمي المصري الرافض لوجود قوات الاحتلال في نتساريم وفيلادلفيا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى