الجزائر

إيمان خليف… ضدّ “كتالوغ” الأنوثة

حكاية إيمان تحطيم للصورة النمطية للمرأة، التي تتمرّكز قضيتها الرئيسة في أنّها "باربي"، توقع الرجال في غرامها

نشرت الملاكمة الأيرلندية إيمي برودهورتس فيديو بكاء إيمان خليف بعد فوزها على منافستها المجرية لوكا هاموري، في منازلة ربع النهائي ضمن منافسات الملاكمة في أولمبياد باريس، وساندتها بقولها: “لا أستطيع أن أتخيّل ما تمرُّ به البطلة إيمان خليف”.. إيمان التي تعرّضت للتنمر والعنصرية بسبب تميّزها وقوتها ونجاحها.

منذ طفولتها، عُرِفت إيمان بالطيبة والكفاح. حاربت لتنال حقّها وتثبت جدارتها، إذ عاشت في بيئة محافظة ترى أنّ الملاكمة محصورةٌ بالرجال. كانت الشابّة الصغيرة تلعب كرة القدم، وكان الأولاد يغارون منها. ورغم فقر العائلة، عملت في بيع الخبز والحديد والبلاستيك لادّخار المال والتدرُّب على الملاكمة. هذه السيرة السريعة لإيمان هي الوجه المعاكس لـ”ساندريلا”، الفتاة الفقيرة التي تتحقَّق العدالة في حياتها، وتنتصر على ظلم زوجة أبيها بلفت انتباه الأمير، ثمّ بالزواج منه ودخول القصر.
حكاية إيمان، إذاً، هي تحطيم للصورة النمطية للمرأة، التي تتمرّكز قضيتها الرئيسة في أنّها “باربي”، توقع الرجال في غرامها، وتدخل في عالم “الحرملك” لتمتلكه، وتُملّكه نفسها. هذا النموذج الانقلابي لصورة المرأة لا يُرضي الفكر المحافظ بشقّيه الغربي والعربي؛ الغربي الأبيض الخالي من الشوائب، الذي يفرض على العالم بأسره المواصفات الجمالية للنساء عبر السينما والإعلام ونشرات الأخبار؛ والعربي الذي يخضع للمزاج نفسه، مضيفاً إلى مفهوم الأنوثة الضعف، والرقّة، والخضوع، والصوت المنخفض، والتبعية، والخجل. ضمن هذه الشروط الثابتة في “كتالوغ” الأنوثة العالمي، بفرعيه الغربي والشرقي، فإنّ الحرس الذكوري، الراعي مصالحَ الرجال الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، جاهز على الفور لشنّ حملات الاغتيال المعنوي ضدّ كلّ امرأة تخالف المعايير.

خارج الإطار القانوني وقواعد الرياضة التي تضعها هيئات ومؤسّسات مُتَّفق على شرعيتها، بل وعلى نزاهتها، يأتي الكلام كلّه المُتعلِّق بجنس اللاعبة الدولية إيمان خلف من باب الهرطقة الاجتماعية، والتفكير الذكوري التاريخي، الذي تمارسه النساء كما الرجال، بفعل الهيمنة المُستمرَّة من عقول ذكورية، تضع تعريفاتها للأشياء والأفعال والأفكار والأشخاص. كامرأة، أرى في إيمان خلف نموذجاً جمالياً مختلفاً، خارج “كتالوغ” الأنوثة الذكوري، الذي يضعنا نحن النساء في بوابة: كوني جميلة وفق هذه المواصفات لتحظي بإعجابنا. كثيرات منا نحن النساء، حتّى من النُخَب، تحوّلنا خاضعاتٍ خانعاتٍ لمقاييس السوق الجمالية، وصار لدينا هَوَسٌ جديدٌ غير هَوَسِ “المكياج” والملابس و”الإكسسوارات”، التي تستمتع كاتبة هذ السطور بها جمالياً، وفق ذائقتها الخاصّة، ليتحوّل الهَوَسُ: هل أُجري عمليةً شدٍّ لوجهي؟ هل أنفي كبير وعليّ تصغيره؟ هل أقوم بعملية شفط دهون لبطني؟ هل أقصّ جفني المليء بالتجاعيد؟

فنانات جميلات كنَّ حديث الجهور في فترة شبابهن، وكانت صورهن تحتلُّ جدران المراهقين ليكنَّ نماذجَ الحبيبات المحلوم بهن، أو جدرانَ المراهقات لتقليدهن، تُنشر صورهن من حين لآخر، من دون “مكياج”، وقد تغيّرت وجوههن، وكبرن، ليُتَنَمَّر عليهن ويُسخَرُ من ” بشاعتهن”. في الحالتَين، في حالة إيمان خلف، الأنثى القوية ذات العضلات واللكمات المدروسة، أو الممثّلة الحلوة أيّام زمان، التي صارت ” قبيحةً” الآن، فإنّ المرجعية لتقييم الأنوثة والجمال واحدة؛ الرجال الذكوريون الذين يضعون مقاييس الجمال بالمسطرة، وبالسنتمتر، التي إن زاحت عنه إحدانا، تُطرَد على الفور من التصنيف الشرس لوضع المرأة في خانة النساء.

في السياسة حتّى، يُهمَل أداء المرأة، كما وعيها، ونضجها، وخبراتها، وأفكارها، لتتعرّض للتنمُّر وفق مواصفاتها الجسدية. تقع النساء دائماً في مرمى نيران الذكور حين يتفوَّقن وينجحن، وهذا ليس في العالم العربي فحسب، لكنّه أكبر وأكثر انتشاراً في عالمنا العربي. حتّى في فرنسا، يغار الرجال من قوّة النساء، ويسخرن منهن، وكثيرة هي النُكات والقصص المُتظارفة عن النسويات، اللواتي صرن يشبهن الساحرات في العصور الوسطى، حين تتهمن بالشعوذة، ويُطالَب بقتلهن. أما في العالم العربي، فصورة النسوية مليئة بالتهكم والتحقير، فالمرأة النسوية؛ التي لا تستحم؛ لا تضع العطر؛ لا تزيل الشعر؛ صوتها مرتفع؛ عصبية؛ رائحتها بشعة؛ كحوليّة، وربّما مثلية… هل هذه الشيطنات من باب الخوف من ظهور المرأة وتفوَّقها وخروجها على مبدأ الطاعة، الذي يهيئ للرجل وضعيةً مريحةً، ويُهدِّد مكاسَبه؟

بلوغ البطلة الجزائرية إيمان خليف الدور النهائي في دورة الألعاب الأولمبية 2024 في باريس هو انتصار لفكر رياضي جديد، وتحطيم لغطرسة العالم الأبيض الذي يضع مقاييس الجمال، وانتصارٌ لتعاريف النساء حول الجمال، والخروج عن الـ”كتالوغ” لفرض مفاهيم جمالية جديدة تهزّ الثوابت الخائفة، وتُخرج النساء من عباءة الطاعة والتبعية. إيمان خليف العربية هي بدايات إزاحة وجه باربي عن أذهان البنات في العالم، لخلق وجوه أخرى للجمال، وتغيير أحلام النساء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى