في ختام اجتماع دولي لدعم أوكرانيا أشرف على تنظيمه شخصياً، أدلى الرئيس إيمانويل ماكرون بتصريحات تصدرت عناوين الأخبار. إذ ألمح إلى إمكانية إرسال قوات غربية لمساعدة أوكرانيا التي تواجه صعوبات على الميدان. وتحدث عن الغموض الاستراتيجي. والواقع أنه لم يقل إنه ينوي حشد القوات، إلا أنه لم يشأ استبعاد هذا الخيار. والحال أنه إذا أُرسلت قوات غربية للقتال في أوكرانيا، فإن هذا يرقى إلى خوض حرب مباشرة ضد روسيا. ولهذا يجدر بفرنسا التفكير ملياً قبل الإقدام على مثل هذه المغامرة ضد دولة تمتلك السلاح النووي.
تصريحات الرئيس الفرنسي فاجأت العسكريين الفرنسيين الحاضرين في المؤتمر، ولكن شركاء فرنسا الأوروبيين والغربيين بالخصوص هم الذين صدرت عنهم ردود فعل قوية. إذ أعلنت كل من ألمانيا وبولندا والمملكة المتحدة، وجميعها من أقوى البلدان المؤيدة لأوكرانيا، ألا مجال لإرسال قوات إلى أوكرانيا. ومن جانب الولايات المتحدة، أكد الرئيس جو بايدن باستمرار أن لا مجال لإرسال جنود أميركيين إلى أوكرانيا.
والواقع أنه من الضروري التمييز بين إرسال معدات إلى أوكرانيا لمساعدتها، والمشاركة المباشرة في هذا النزاع الذي سيتخذ حينها طابعاً مختلفاً تماماً، ذلك أن هذا النوع من الإعلانات ينطوي على خطر حقيقي للتصعيد. وإذا كان الرئيس ماكرون قد قوبل بعدم التأييد من قبل كل نظرائه، فإنه قال إن الأفكار التي تقابَل بعدم التأييد في البداية يمكن أن تحقق تقدماً في أذهان الناس. غير أن إرسال دبابات أو طائرات، وهي الفكرة التي رُفضت في البداية، ليس كإرسال قوات والزج بها في حرب مشتركة أو حتى حرب مباشرة مع روسيا.
ولكن، ما الذي دفع الرئيس إيمانويل ماكرون إلى الإدلاء بمثل هذا التصريح؟
إننا نعلم أنه يحب إحداث فرقعات والاستفزاز والمفاجأة. فهل استسلم لما قد يبدو «حدساً رائعاً»، تبين أنه يؤدي إلى نتائج عكسية؟ الواقع أننا نتذكر اقتراحه، غداة هجمات 7 أكتوبر 2023 التي نفذتها «حماس» في إسرائيل، إنشاء تحالف دولي مناهض لـ«حماس» على غرار التحالف الدولي ضد «داعش»، وكيف أن هذه الفكرة «الرائعة» بدت غير واقعية تماماً، وقوبلت بالرفض على نطاق واسع.
أما الفرضية الثانية، فهي ما إن كان يرى في ذلك فرصة سانحة. ذلك أن الولايات المتحدة لا تستطيع فعل شيء بسبب خلافات في الكونجرس بشأن المساعدات الأميركية لأوكرانيا، ويدا جو بايدن مقيدتان. وألمانيا، التي تُعد أول مساهم أوروبي في المساعدات الموجهة لأوكرانيا، مترددة: فهي لا تسلّم كييف صواريخ «توروس»، التي يطالب بها الأوكرانيون بشدة. والبريطانيون، الذين خرجوا من الاتحاد الأوروبي، منشغلون بقضاياهم السياسية الداخلية. وعليه، فربما أراد إيمانويل ماكرون أخذ زمام المبادرة ولعب دور قيادي بخصوص مساعدة أوكرانيا، في حين أن فرنسا لطالما اعتُبرت الحليف الأكثر تردداً بسبب التنازلات العديدة التي قدمتها لموسكو.
بيد أن مثل هذا الاقتراح يرضي الجو المؤيد للغرب الذي يسود النقاش الإعلامي الفرنسي وجزءاً من المجتمع الاستراتيجي. ففي مقابلة معه على متن الطائرة لدى عودته من الصين، أعلن الرئيس ماكرون أن المعركة الإيديولوجية من أجل الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي قد كُسبت. ولكنني لا أعتقدُ ذلك. فربما كُسبت في الرأي العام، ولكن ليس في المجتمع الاستراتيجي ولا في الدوائر الإعلامية، التي تُعد أكثر تأييداً للغرب. فهل أراد الرئيس ماكرون إرضاء المعلّقين من خلال إخبارهم بأنه الأكثر حزماً وصرامة تجاه روسيا؟ الواقع أنه بين تبني الحزم والصرامة في التعامل مع روسيا والمجازفة بالانجرار إلى حرب، لا بد من تقييم المخاطر وتحاشي التصعيد.
وعليه، فإن دعم أوكرانيا بقوات إنما يرقى إلى الدخول في حرب ضد روسيا. والحال أن الثمن الذي ينبغي دفعه من أجل تحرير أوكرانيا لا يستحق حرباً عالمية. فهل سنموت من أجل دونباس (التي كانت حتى الأمس القريب مهملة من قبل أوكرانيا)؟
هناك خطر أن تصبح أوكرانيا الأفق الرئيسي للدبلوماسية الفرنسية، بل والأساسي. فمن قبل، كان هناك منعطف براتيسلافا، حين أراد الرئيس ماكرون إرضاء الأوروبيين الشرقيين — بولندا ودول البلطيق — عبر التأكيد على أنه تغيّر بالفعل وأنه حازم مع روسيا. وعلى ما يبدو، هناك الآن مزايدة. فقبل بضعة أيام، قام وزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورنيه بزيارة إلى الأرجنتين قصد الاحتفاء بسياسة بوينس آيرس الخارجية، ذلك أن الأرجنتين واحدة من دول أميركا اللاتينية القليلة التي تدعم أوكرانيا.
غير أن الإشادة بهذا الدعم تنطوي على خطر الابتعاد والانفصال عن بلدان أميركا اللاتينية الأخرى، والحال أن فرنسا يمكنها أن تكون جسراً بين الجنوب العالمي والعالم الغربي. فصحيح أن فرنسا بلد غربي، ولكن حمضها النووي الجيوسياسي لا يمكن أن يُختزل في ذلك فقط. ومن غير الممكن أن تكون أوكرانيا مركز الاهتمام الوحيد بالنسبة للسياسة الخارجية الفرنسية، التي تكمن مصلحتها على العكس من ذلك في تنمية العلاقات مع العالم غير الغربي، وخاصة في وقت ما فتئ يزداد فيه أهمية على الصعيد الجيوسياسي.
ثم ما هي أهداف الحرب؟ الرئيس زيلينسكي ما زال يقول، إنه يريد تحرير جميع الأراضي التي فُقدت منذ 2022 و2014. هذا الأمر يبدو صعبا من الناحية العسكرية، اللهم إلا إذا اندفع الغرب إلى الحرب. غير أنه يظل من الضروري التفكير في العواقب الخطيرة جداً التي قد تترتب عن مثل هذا الإعلان. ذلك أن دعم أوكرانيا بشكل قوي بالسلاح والذهاب إلى الحرب إلى جانبها قصتان مختلفتان تماما!