لم تكد طهران تلتقط أنفاسها، وتدفع الجهود الأميركية والدولية لتمرير قرار وقف إطلاق النار على الجبهة اللبنانية، وفرض هدنة هشة للحرب بين إسرائيل و”حزب الله”، حتى وجدت نفسها وخلال ساعات قليلة بعد إعلان هذا الاتفاق أمام تحد جديد، جاء هذه المرة من الخاصرة السورية والهجوم الذي قامت به فصائل المعارضة السورية المتجمعة في محافظة إدلب باتجاه مدينة حلب والسيطرة عليها، وإعلانها التوسع في عملياتها العسكرية الطموحة باتجاه محافظات أخرى قد لا تكون حماة آخرها، وتشكل دمشق العاصمة الهدف النهائي لهم ولهذه العملية. وهو تحد قد يكون أكثر خطورة وأشد تعقيداً من تداعيات وآثار الحرب اللبنانية وموقع “حزب الله” حليفها الأول والأهم في الإقليم وعلى الساحة اللبنانية.
لا شك أن الجهود التي بذلتها طهران والقيادة الإيرانية بكل مستوياتها من أجل تمرير الاتفاق على الجبهة اللبنانية، وما فيه من إشكاليات لا يبدو أنها ومعها حليفها اللبناني قادران على تسويغ أو تقديم الأسباب المقنعة للقواعد التي دفعتها للقبول بهذا الاتفاق، والآليات التنفيذية التي وضعت لقرار مجلس الأمن 1701 الذي رعى وقف إطلاق النار في الحرب السابقة عام 2006، بين طرفي الحرب والصراع.
اقرأ أيضا.. محور سني مدجن تقوده تركيا وقطر بديلا عن إيران
اللافت أن الموقف الإيراني هذه المرة يختلف عما كان في عام 2006 وحرب يوليو (تموز)، إذ إن قرار الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله حينها فاجأ القيادة الإيرانية، أو في الأقل الإدارة الدبلوماسية في حكومة الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد. وعلى العكس من الموقف الذي أطلقه وزير الخارجية الإيراني حينها منوتشهر متكي خلال زيارته اليمن، من أنه يستبعد أن يوافق “حزب الله” على القرار الدولي والقبول به وبتطبيقه، جاء الرد من الضاحية الجنوبية لبيروت بإعلان الموافقة والسير بهذا القرار ووقف الأعمال الحربية.
الاختلاف في الموقف الإيراني هذه المرة جاء عبر الدور الذي لعبته طهران في تسهيل الاتفاق، من خلال الجهود الدبلوماسية والسياسية التي بذلتها، سواء في الزيارة التي قام بها وزير الخارجية عباس عراقجي إلى بيروت ومن بعده رئيس البرلمان محمد باقر قاليباف، ومن ثم توجت هذه الجهود في الزيارة التي قام بها علي لاريجاني باعتباره مستشاراً للمرشد الأعلى حاملاً رسالة من المرشد الأعلى للنظام إلى رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري، الذي كان يقود المفاوضات السياسية نيابة عن الدولة اللبنانية وعن “حزب الله” في الوقت نفسه، وهي الزيارة والرسالة التي شكلت المدخل الجدي أمام عملية التوصل إلى الاتفاق بما فيه من شروط معلنة وأخرى غير معلنة.
الدفع الإيراني ومن أعلى المستويات لتسهيل الاتفاق قد يكون نتيجة ما تولد لدى القيادة في طهران من اعتقاد أن المنطقة قد تذهب باتجاه التصعيد المفتوح والحرب الشاملة، في حال استمر الإحراج الأميركي الناتج من إدامة الحرب لأكثر من 13 شهراً وما يشكله ذلك من آثار سلبية على الجبهة الداخلية الإسرائيلية، إضافة إلى رؤية واشنطن لما هو مفترض أن تكون عليه المنطقة، وهو ما لا تريده طهران لأنه قد يضعها أمام تحديات مختلفة وأكثر خطورة، ويهدد تالياً كل ما حاولت ترتيبه وترميمه من علاقات على المستوى الإقليمي مع الجوار العربي، والاستعداد للانفتاح على الحوار والتعاون مع المجتمع الدولي.
هذه التحديات لم تتأخر في ترجمتها على أرض الواقع، إذ جاء الهجوم الذي شنته المعارضة السورية المحصورة في محافظة إدلب شمال سوريا والمفتوحة على العمق التركي السياسي والأمني والجغرافي. وتحول المستجد الأمني والعسكري الذي تشهده سوريا إلى إنذار للنظام في طهران، بإمكانية دخول المنطقة في مرحلة جديدة قد لا تكون لصالحها، وبخاصة أن أي تغيير في المعادلة القائمة في سوريا سيكون على حساب المشروع والدور والنفوذ الإقليمي لإيران.
الكلام الدبلوماسي للخارجية والحكومة الإيرانية والمؤسسة العسكرية الذي اتهم الطرفين الأميركي والإسرائيلي بالوقوف وراء ما تشهده سوريا من متغيرات وتطورات، قد يكون من وجهة النظر الإيرانية والمحور الذي تقوده مسوغاً، بناء على الاعتقاد الإيراني بأن واشنطن وتل أبيب لن تفرطا بأية فرصة تساعد أو تسمح بتغيير المعادلة على الساحة السورية، وبخاصة أن ضغوطاً دولية وتحديداً أميركية وإسرائيلية على القيادة السورية اقتصادياً وسياسياً وأمنياً وعسكرياً، من أجل إجبارها أو جرها لفصل موقفها عن المسار الإيراني الإقليمي.
إلا أن الكلام الداخلي الإيراني وتوجيه الاتهام للجار التركي الذي جاء بصورة غير مباشرة في كلام رئيس البرلمان قاليباف عندما وجه النصيحة لجيران سوريا بعدم التورط في المشروع الأميركي – الإسرائيلي، والذي فهم منه بوضوح اتهام تركيا بالدفع لهذه الحرب أو المعركة من أجل فرض معادلة جديدة على الساحة السورية، لم يتأخر بأن تحول إلى كلام مباشر، وهذه المرة على لسان علي ولايتي كبير مستشاري المرشد الأعلى للشؤون الدولية، الذي اعتبر أن تركيا “وقعت في الفخ الذي حفرته أميركا وإسرائيل”، مضيفاً أن “تركيا أصبحت للأسف أداة في يد أميركا وإسرائيل”.
كلام ولايتي الذي يعبر عن موقف المرشد الأعلى لم يكن ليعلن عنه إلا بعد اطلاعه على التقرير الذي رفعه وزير الخارجية حول نتائج زيارته تركيا، واللقاء الذي جمعه ونظيره هاكان فيدان، وما لمسه من تمسك أنقرة بما تقوم به في سوريا، والذي لا يعني تهديداً حقيقياً وجدياً للمصالح الإيرانية الاستراتيجية، ويهدف إلى فرط عقد المحور الذي تقوده واستثمرت به على مدى عقود. من هنا جاء موقف عراقجي من أنقرة بالإعلان عن استعداد بلاده للتدخل مباشرة إلى جانب الحكومة السورية في مواجهة الجماعات المسلحة، ثم الإضافة أن طهران على استعداد لإرسال قوات عسكرية في حال طلبت دمشق ذلك.
من المؤكد أن طهران، وعلى رغم خطورة ما تشهده الساحة السورية، ترى أن هذه التطورات قد تساعدها في إيصال رسالة واضحة للقيادة السورية، وتحديداً الرئيس السوري بشار الأسد بأن الرهانات على إمكانية الانتقال من محور إلى محور، أو إمكانية الاستغناء عن طهران لن يضمن له الاستقرار الموعود أو الذي يغريه به أطراف إقليميون ودوليون. من ثم فإن وقوف طهران إلى جانب سوريا فضلاً عن أنه يشكل خطوة إيرانية للدفاع عن مصالحها ومناطق نفوذها، فهو يسمح بوضع حد للتمايز السوري في كثير من المواقف لمصلحة أطراف آخرين، من ثم فإن تعويل دمشق على استبدال التعاون والتحالف مع إيران لن يحقق لدمشق ما تريده.
من ناحية أخرى، فإن طهران ستكون مجبرة على التدخل المباشر هذه المرة وليس عبر حلفائها، وبخاصة اللبنانيين المنهكين من حربهم وخسائرهم المعنوية القيادية والبشرية والمادية، لمنع أي تغيير في المعادلة التي عملت على تكريسها، وأنها ستدفع باتجاه فتح المعركة على وسعها باتجاه حسم الموقف في إدلب هذه المرة ميدانياً، بالتالي سحب الورقة التركية التي تعتمد على هذه الجماعات المسلحة من دون إسقاط إمكانية العودة لإحياء مسار أستانا، لكن هذه المرة على معطيات مختلفة تهدف إلى إفهام أنقرة أن الحلول تمر من خلال طهران، وأن إعادة تطبيع العلاقة يمر عبر العودة إلى الالتزام بجميع التفاهمات التي خرجت عن أستانا، وأنها الضامن لأي تقارب بينها ودمشق خلال المرحلة المقبلة.