إيران والتطبيع السوري التركي: متلازمة البوسنة
التجربة البوسنية كانت درسًا قاسيًا لإيران، وهي الآن تسعى لتجنب تكرار هذا السيناريو في سوريا، حيث بنت نفوذًا واسعًا لا يقتصر على الجانب العسكري، بل يشمل أيضًا الجوانب الثقافية والدينية والاقتصادية.
شهدت العلاقات بين تركيا وسوريا تحولات جذرية خلال السنوات الأخيرة، فانطلق مسار تطبيع العلاقات بعد سنوات القطيعة. ولم يمر ذلك دون أن يثير قلق إيران. فهي تخشى أن يؤدي ذلك التطبيع إلى أن تخسر نفوذها في سوريا الذي بنته على مدى سنوات الحرب، في سيناريو يكرر ما حدث لها في البوسنة عام 1995 بعد اتفاق دايتون، حين فقدت نفوذًا كانت اكتسبته بشقّ الأنفس.
منذ بداية الأزمة السورية في عام 2011، مرت العلاقات بين تركيا وسوريا بثلاث مراحل متتالية. الأولى كانت “مرحلة الحل والحوار” بين عامي 2011 و2012، حيث كانت تركيا تحاول إيجاد حلول دبلوماسية للأزمة السورية. ومع تصاعد الصراع، دخلت العلاقة بين البلدين “مرحلة الانفصال والمواجهة” بين عامي 2012 و2017، إذ دعمت تركيا قوى المعارضة المسلحة ضد النظام السوري. ثم جاءت المرحلة الثالثة، الممتدة من 2017 إلى 2023، التي عرفت بـ”مرحلة التفاهم والتخفيف”، حيث حاولت تركيا وسوريا إعادة بناء قنوات التواصل بينهما.
في عام 2023، دخلت العلاقات بين أنقرة ودمشق مرحلة جديدة، هي “عملية التطبيع”، التي شهدت أول لقاء رسمي بين وزيري الدفاع ورؤساء الاستخبارات من كلا البلدين في موسكو في ديسمبر/كانون الأول 2022، تحت رعاية روسيا. وفي مايو/أيار 2023، انعقد اجتماع رباعي آخر في موسكو ضم وزراء خارجية تركيا وسوريا وروسيا وإيران، إلا أن هذه المحاولات فقدت زخمها بعد اندلاع عملية طوفان الأقصى في أكتوبر/تشرين الأول 2023.
لكن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أعاد إحياء الجهود في يوليو/تموز 2024، بعد عودته من قمة الناتو، معلنًا استعداد بلاده لإعادة إرساء السلام مع سوريا، مع تأكيد أن وزير الخارجية هاكان فيدان سيعمل مع نظيرَيه: السوري والروسي لوضع خارطة طريق لعملية التطبيع.
رد الأسد لم يتأخر، إذ أعلن عن استعداده لأي مبادرة تهدف إلى تطوير العلاقات مع تركيا، مشيرًا إلى أن أي لقاء مباشر مع الرئيس التركي لن يتم دون شروط مسبقة. تستمر الآن عملية التطبيع، التي أُعيد إحياؤها عقب تصريحات أردوغان، وسط وساطة روسية وتطلعات إقليمية متزايدة.
التطبيع من وجهة نظر تركيا
تركيا ترى أن تطبيع العلاقات مع سوريا يخدم مصالحها الوطنية والإقليمية على عدة مستويات. ففي مقدمة هذه الأسباب، تأتي المخاوف المتعلقة بمستقبل سوريا. بعد أكثر من 13 عامًا من الأزمة، تغيرت الديناميكيات الداخلية السورية بشكل كبير، حيث تستمر الحكومة السورية في السيطرة على دمشق، في حين تظل قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة، وهيئة تحرير الشام، والجيش السوري الحر، قوى مؤثرة في أجزاء مختلفة من البلاد. إلى جانب هؤلاء، هناك جماعات مسلحة مدعومة من إيران تنشط في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة.
على الصعيد الاجتماعي، فقد تغيرت التركيبة السكانية لسوريا، مع ولادة ملايين الأطفال السوريين في بلدان اللجوء، مثل: تركيا، ولبنان، والأردن، والدول الغربية. هؤلاء الأطفال باتوا جزءًا من ثقافات جديدة، مما يزيد من تعقيد الصورة المستقبلية لسوريا. أما السوريون الذين عاشوا في البلاد خلال الحرب، فقد مروا بتجارب قاسية وصادمة شكلت رؤيتهم للمستقبل.
أمام هذه التغيرات، تجد تركيا أن سوريا لن تتمكن بسهولة من استعادة وحدتها السياسية. لذلك، قد يُطرح نموذج الإدارة الإقليمية كحل سياسي في المستقبل، وهو ما يذكر بالنموذج اللبناني الذي طبق بعد الحرب الأهلية، أو النموذج العراقي بعد الغزو الأميركي. لكن هذا النموذج لم يكن أبدًا وسيلة لتحقيق الاستقرار، بل أسهم في استمرار الصراعات والتدخلات الأجنبية. اليوم، يخشى كثيرون أن يكون هذا هو النموذج الذي قد يفرض على سوريا.
تركيا، التي تمتلك أطول حدود برية مع سوريا، ترى أن الحفاظ على أمن هذه الحدود يمثل أولوية. كما أن الأحداث الأخيرة في غزة، والهجمات الإسرائيلية، أعادت تسليط الضوء على الطموحات الإقليمية لإسرائيل. يرى أردوغان أن المقاومة الفلسطينية تدافع ليس فقط عن غزة، بل عن أمن المنطقة كلها، بما فيها تركيا. لذلك، ترى أنقرة في تطبيع العلاقات مع سوريا وسيلة لتعزيز أمنها الإقليمي في مواجهة التهديدات المتزايدة.
من جانب آخر، يشكل الهيكل الذي تسعى قوات سوريا الديمقراطية إلى إنشائه في شرق سوريا، بدعم أميركي، تهديدًا كبيرًا للمصالح التركية. تركيا شنّت عدة عمليات عسكرية ضد وحدات حماية الشعب، الذراع العسكرية لحزب الاتحاد الديمقراطي، وسيطرت على عدة مدن، أبرزها عفرين.
أنقرة ترفض بشدة وجود كيان كردي على حدودها، وترى أن تسليح الولايات المتحدة لهذه القوات يزيد من التهديد على أمنها القومي. هذا الوضع، الذي يشكل خطرًا مباشرًا على الحدود التركية، هو أحد الأسباب الرئيسية التي تدفع تركيا لتعجيل عملية التطبيع مع دمشق.
تعتبر تركيا أن جهود التطبيع مع سوريا جزء لا يتجزأ من سياستها العامة للتطبيع مع دول المنطقة. ففي السنوات الأخيرة، قامت أنقرة بإصلاح علاقاتها مع السعودية والإمارات. وتعد هذه الخطوات جزءًا من رؤية تركيا للتكيف مع التحولات العالمية وظهور قوى جديدة على الساحة الدولية.
منذ عام 2017، تبنت تركيا سياسة خارجية متوازنة بين الولايات المتحدة وروسيا والصين، وسعت لتوسيع نطاق نفوذها في الشرق الأوسط، أفريقيا، وآسيا الوسطى. وهذا التوجه الجديد يمكن رؤيته بوضوح في تحركات تركيا الأخيرة في دول مثل: السودان، الصومال، ليبيا، أذربيجان والنيجر.
التطبيع من منظور حكومة دمشق
من زاوية دمشق، التطبيع مع تركيا ليس مجرد ضرورة سياسية، بل هو أيضًا مخرج من عدّة أزمات محلية وإقليمية. فكما هو الحال في أنقرة، تخشى دمشق من مستقبل النظام السياسي الذي سيتشكل في سوريا بعد سنوات الحرب. الوجود الأميركي شرق الفرات يثير قلق النظام، خاصة مع محاولات قوات سوريا الديمقراطية تأسيس نموذج إداري خاص بها. علاوة على ذلك، يضاف إلى هذا الخليط المعقد الحضور الإيراني والجماعات المسلحة المرتبطة بها.
رغم أن إيران تقول إن وجودها في سوريا جاء بدعوة من دمشق، فإن نفوذها المتزايد بدأ يشكل مصدر إزعاج لبشار الأسد. منذ تدخل روسيا في الساحة السورية عام 2015، حاول الأسد موازنة هذا التأثير الإيراني، ونجح إلى حد ما في تحقيق ذلك. من هنا، يمكن أن يساعد التطبيع مع تركيا على تقليص النفوذ الإيراني، خاصة إذا ما أخذنا في الحسبان حاجة الأسد لموازنة الأطراف الدولية المتداخلة في الشأن السوري.
جانب آخر يزعج الأسد هو النفوذ الثقافي لإيران في سوريا. فإلى جانب تواجد المليشيات والمستشارين العسكريين، أنشأت إيران مراكز ثقافية؛ حسينيات، ومساجد، مما يعمق من تأثيرها الاجتماعي والديني في البلاد. لهذا السبب، يمكن أن يكون التطبيع مع تركيا جزءًا من إستراتيجية دمشق للحد من هذا التغلغل الإيراني.
إلى جانب ذلك، تسعى دمشق إلى استعادة اندماجها الإقليمي، خاصة بعد عودتها إلى جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، وهي خطوات أعطتها شرعية جديدة في المنطقة. التطبيع مع تركيا والدول الإقليمية الأخرى يُعتبر مفتاحًا لتخفيف الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد، حيث تأمل دمشق أن يسهم هذا التطبيع في تحسين أوضاعها الاقتصادية عبر تعزيز التعاون التجاري والاقتصادي.
على الرغم من أن عملية التطبيع قد لا تسير بسرعة كبيرة، فإن الإرادة السياسية التي برزت تعدُّ خطوة مهمة لدفع العملية إلى الأمام. في هذا الإطار، تشير بعض المصادر في أنقرة إلى إمكانية عقد لقاء مرتقب بين أردوغان والأسد في موسكو في نهاية سبتمبر/أيلول أو منتصف أكتوبر/تشرين الأول 2024، وهو ما يمكن أن يكون خطوة محورية في هذا السياق.
إيران ومتلازمة البوسنة
من جهة أخرى، تراقب إيران تطورات التطبيع بين تركيا وسوريا من كثب. فقد صرح المسؤولون الإيرانيون مرارًا بأنهم يدعمون هذا التطبيع، لكن رغم ذلك، ثمة تحفظات غير معلنة. شاركت إيران في الاجتماع الرباعي الذي عقد في موسكو عام 2023، لكنها لم تشارك في الاجتماعات اللاحقة. في أنقرة، يعتقدون أن إيران تدفع دمشق إلى تبني موقف متشدد، مفاده أنه ينبغي على تركيا سحب قواتها أولًا، قبل أن تبدأ أي عملية تطبيع حقيقية.
أردوغان ووزير الخارجية هاكان فيدان أعلنا في أكثر من مناسبة أنهما يتوقعان من إيران أن تلعب دورًا بناءً في هذه العملية. السفير التركي في إيران، حِجابي قرلانجيش، عبّر عن رسالة مماثلة خلال مقابلة له مع وكالة أنباء “تسنيم” الشهر الماضي، مشيرًا إلى أهمية أن تتبنى طهران موقفًا إيجابيًا لدفع الأمور قدمًا.
من منظور إيران، لا يبدو أن الحكومة في طهران متحمسة لتغيير الوضع الراهن في سوريا. فهي تشعر بأن أي تطبيع بين دمشق وأنقرة قد يقوض النفوذ الذي بنته طهران في سوريا على مدار 13 عامًا. إيران تدرك أن إعادة ترتيب النظام السياسي في سوريا قد تهدد مكاسبها الإستراتيجية، ولهذا تفضل استمرار الوضع الحالي الذي يمنحها مساحة أكبر للحركة.
التاريخ يقدّم دروسًا لا تغفلها طهران. فإيران كانت حاضرة بقوة في البوسنة بين عامي 1992 و1995، حيث دعمت البوشناق ضد الصرب. لكن بعد اتفاق دايتون، وجدت إيران نفسها مجبرة على الخروج من المشهد، رغم أنها كانت تخطط للبقاء عبر مؤسسات القوة الناعمة والمستشارين العسكريين.
التجربة البوسنية كانت درسًا قاسيًا لإيران، وهي الآن تسعى لتجنب تكرار هذا السيناريو في سوريا، حيث بنت نفوذًا واسعًا لا يقتصر على الجانب العسكري، بل يشمل أيضًا الجوانب الثقافية والدينية والاقتصادية.