إيران بين التكتيك المرشد والليونة المصلحة
إذا ما استطاع الجانب الإيراني تثبيت معادلة الحوار المباشر مع الإدارة الأميركية، حتى إن لم تصل إلى نتائج حاسمة ومستقرة، أو انتهت إلى الفشل، فإنه في المقابل يبعث برسالة واضحة إلى كل الأطراف الإقليمية المعنية بما يجري في المنطقة، أن لا حاجة لطهران في فتح قنوات حوار مع الوكيل، وهنا المقصود بالوكيل الإسرائيلي بالتحديد والحصر
عندما سئل أحد الزعماء السياسيين الراحلين عن السبب الذي دفعه إلى الذهاب مباشرة للحوار مع الإدارة الأميركية في ثمانينيات القرن الماضي ورفضه الوساطة الروسية في فتح قناة تواصل بينه وواشنطن، قال، إذا كانت الأمور مفتوحة أمام حوار مباشر بيني والأميركي، فلا حاجة إلى الوسيط الذي سيحاول الحصول على مكاسب من حصتي وحصة الأميركي.
ما يصدق على دور الوسيط وطموحاته في تحقيق مكاسب، يصدق أيضاً على الأصيل والوكيل في ما يمكن أن تتجه إليه منطقة الشرق الأوسط من حوارات وتفاهمات في المرحلة المقبلة، بخاصة بين الجانبين الأميركي والإيراني، إذ إن الموقف لدى الطرفين الأميركي والإيراني يبدو واضحاً في سعي كل منهما إلى فتح قنوات حوار مباشرة وعلنية بينهما، وأنهما يبحثان عن الطريقة أو الآلية التي لا تظهر أيّاً منهما في موقف المتنازل، بخاصة أن هدفهما المشترك هو التفاهم على مستقبل منطقة الشرق الأوسط وما يمكن أن ينتج منه من معادلات سياسية وجيوستراتيجية جديدة أو تظهير معادلات قائمة وإخراجها من خلف الكواليس.
وإذا ما استطاع الجانب الإيراني تثبيت معادلة الحوار المباشر مع الإدارة الأميركية، حتى إن لم تصل إلى نتائج حاسمة ومستقرة، أو انتهت إلى الفشل، فإنه في المقابل يبعث برسالة واضحة إلى كل الأطراف الإقليمية المعنية بما يجري في المنطقة أن لا حاجة لطهران في فتح قنوات حوار مع الوكيل، وهنا المقصود بالوكيل الإسرائيلي بالتحديد والحصر، ما دام أنها قادرة على الحوار مع الأصيل الأميركي والتفاهم معه على مراحل لا تكون مجبرة فيها على وضع كل ملفاتها وأوراقها على الطاولة دفعة واحدة.
عندما تحدث المرشد الأعلى للنظام الإيراني السيد علي خامنئي في لقائه رئيس الجمهورية مسعود بزشكيان وفريقه الرئاسي والوزاري عن إمكان الحوار مع العدو حول موضوع معين، كان بذلك يعطي إشارة واضحة للحكومة الجديدة بأن الطريق أمام إمكان الحوار المباشر مع الإدارة الأميركية “العدو” يملك غطاء وضوءاً أخضر منه بصفته الولي الفقيه وصاحب الصلاحية الأولى في رسم السياسات والاستراتيجيات العامة للنظام.
هذا الكلام للمرشد تزامن مع اكتمال عقد الفريق الدبلوماسي للحكومة الجديدة التي ترفع شعار الانفتاح على الحوار مع جميع الأطراف من أجل تحقيق مصالح إيران القومية والوطنية والاستراتيجية.
فإلى جانب عودة محمد جواد ظريف لموقع معاون الرئيس للشؤون الاستراتيجية، يمكن القول إن الوزير الجديد للخارجية عباس عراقجي، الآتي من موقعه كنائب للوزير ظريف للشؤون السياسية وكبير المفاوضين، نجح في ترتيب فريقه السياسي والتفاوضي، بعد تعيين المندوب السابق لإيران في الأمم المتحدة مجيد تخت روانجي كنائب له للشؤون السياسية ومفاوض.
هذه التعيينات ودلالاتها تتكامل صورتها بوجود أمير سعيد إيرواني كمندوب لإيران في الأمم المتحدة وهو الآتي من موقع المعاون السياسي لأمين المجلس الأعلى للأمن القومي، مما يعني وبحسب توصيف الجناح المتطرف الذي تقوده جماعة “الثابتون” “بايدرايها” قد أعاد عراقجي ترتيب ما يسمونه “عصابة نيويورك” في المفاصل الأساسية للدبلوماسية الإيرانية وسلّمهم مفاتيح الفريق المفاوض.
هذه المعطيات تحمل دلالات على جدية النوايا الإيرانية بإحداث نقلة نوعية في مسار التفاوض “المباشر” مع الإدارة الأميركية حول مختلف الملفات، هذه المرة من بوابة التركيز على الجانب المتعلق بالملف النووي والاتفاق المرتبط به وما يعنيه من التوصل إلى حلول لأزمة العقوبات الاقتصادية التي تشكل الهاجس ومصدر القلق الحقيقي للحكومة الجديدة والنظام على حد سواء.
إلا أنها في الوقت نفسه تقترن بمؤشرات واضحة على استعداد قيادة النظام لإبداء كثير من الليونة والانعطاف في بعض القضايا التي تدخل في إطار المصالح القومية وترتبط بمفهوم السيادة والأمن القومي، بخاصة تلك المرتبطة بموضوع الرد على عملية اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية في طهران.
وكان لافتاً في هذا السياق، ما قام به الموقع الرسمي للمرشد الأعلى من إعادة نشر تفاصيل اللقاء الذي جمع المرشد مع عوائل شهداء محافظة بوير أحمد وكهكلويه، إذ إن اللقاء جرى في الـ14 من أغسطس (آب) الماضي بعد يومين من لقائه الرئيس وحكومته، وحديثه عن الحوار والتفاوض مع العدو، ثم أعيد نشره الأحد الماضي مرة أخرى في صدر الموقع الرسمي KHAMENEI.IR واستشهاده بالآية الـ 16 من “سورة الأنفال” في القرآن الكريم التي تقول (وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) والتفسير الذي قدمه لها حول “شرعية التراجع التكتيكي” بناء على المصلحة العليا وعدم اعتبار هذا التراجع استسلاماً أو خضوعاً للعدو.
والحديث عن التراجع اقترن هذه المرة مع كلام صدر عن مسؤولين في مكتب المرشد حول التزام إيران الرد على عملية اغتيال هنية وأن القرار يقع في صلب صلاحيات المرشد باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة وهو الذي يملك صلاحية اتخاذ القرارات الاستراتيجية بالتشاور مع القيادات العسكرية العليا، إضافة إلى تراجع الحديث عن عملية ردّ صاروخية واسعة على رغم أن قوات الحرس قد أجرت خلال هذه الفترة نحو 13 مناورة لمختلف أنواع الصواريخ الباليستية في إطار ما أعلنته من تحضير لعملية الرد، ثم تغير الكلام ليصبح عن رد أمني مدروس ومفاجئ بحسب تعبير مندوب إيران في الأمم المتحدة إيرواني.
على رغم كل التسويغ الذي صدر وسيصدر حول هذه الانعطافة أو الليونة، إلا أن الثابت الوحيد يكشف عن أن قيادة النظام الإيراني وجدت في اللجوء إلى اعتماد تكتيك مختلف عما قامت به في الرد على استهداف قنصليتها في دمشق مدخلاً لعدم التفريط بإمكان العودة لطاولة التفاوض، وأن تحقيق المكاسب من خلال الحوار والتفاهم قد يغنيها عن الرد، بخاصة أنها ستكون قادرة على توظيف ما قد تحصل عليه في هذه المفاوضات بين حلفائها على أنه انتصار استراتيجي.
من هنا يمكن اعتبار ما صدر عن الإدارة الأميركية والحكومة العراقية عن اقتراب الطرفين من وضع اللمسات الأخيرة على اتفاق انسحاب القوات الأجنبية من العراق الذي ستبدأ مرحلته الرئيسة في سبتمبر (أيلول) 2025 وتنتهي عام 2026، وهو يتضمن حكماً انسحاباً من سوريا، كأحد المكاسب الاستراتيجية على المستوى الإقليمي للنظام الإيراني، في ظل الاستراتيجية التي وضعها المرشد عام 2020 بعد اغتيال قاسم سليماني وركّز فيها على العمل لخروج القوات الأميركية من منطقة غرب آسيا، تحديداً العراق وسوريا.