إقبال السوريين على عمليات التجميل ردة فعل على إنهاك الحرب والاقتصاد
تعتبر سوريا من أرخص الدول عربياً وإقليمياً في إجراءات وعمليات التجميل، لكنها بالنسبة إلى السوريين المنهكين من الواقع الاقتصادي المتدهور تكلف مبالغ باهظة تعجز عنها الغالبية العظمى من الذين يرزحون تحت خط الفقر، غير أن مشهد الاقبال الكبير على عيادات التجميل يثير مفارقة غريبة يجد لها علماء النفس والاجتماع تفسيرا منطقيا بعد سنوات من الحرب فيما يعرف بـ”تأثير قلم الحمرة”.
وتنتشر إعلانات المراكز والعيادات التجميلية على مواقع التواصل الاجتماعي، تعرض مزاياها بالاعتماد على شخصيات مؤثرة اجتماعياً وفنيا من أجل الترويج لها. حيث لم تعد الاجراءات التجميلية حكراً على الشخصيات الفنّية وميسوري الحال كما كانت سابقا، وهو ما يفسر انتشار مراكز للتجميل في الأحياء والمناطق الشعبية أيضاً.
ويرى العاملون في المجال أن الجراحة التجميلية هي أكثر المجالات الطبية ارتباطاً بالإعلان وقد ازدهرت بسببه، وباتت في جزء كبير منها مادة إعلانية استهلاكية، ويشيرون إلى أن الأمر الذي يبعث على القلق هو أنه بات يُعلن بأن اختيار أنف جديد كشراء ثوب وأن الإجراءات التجميلية خالية من الألم والمخاطر وذلك ضمن حمّى إعلانية وإعلامية لا سابق لها.
والكثير من مراكز التجميل تدار من قبل أطباء باختصاصات مختلفة لا تتعلق بالتجميل، وتبلغ أحياناً كلفة عيادات التجميل أسعاراً باهظة جداً، بحسب كلفة مستلزمات العيادة ومكانها. وبعض هذه المراكز يخالف القوانين والمواثيق الطبية، وقلة منها تستوفي الشروط اللازمة، ومن ثم فإنها تترك تداعيات سلبية لطالبي التجميل في الكثير من الأحيان لغياب الرقابة والاختصاص اللازم. لكن هذا الأمر لا ينطبق على جميع المراكز، وكلما قلت أخطاء الطبيب التجميلية ذاع صيته أكثر.
إقرأ أيضا : أميركا وإيران بين التفاؤل الانتخابي والتشاؤم الإقليمي
وترتفع تباعاً أسعار العمليات التجميلية، بدءاً من أسعار حقنة البوتوكس، والفيلر (لتخفيف التجاعيد)، والتقشير الضوئي والمائي، والخضوع لأشعة ليزر، أو الأشعة تحت الحمراء لتحفيز الأنسجة، والتدليك العلاجي، والتنبيه الكهربائي للأعصاب وغيرها، وصولاً لعمليات تجميل الثدي ونحت الجسد وتكسير الدهون، وهذه التقنيات لم تكن معروفة بهذا النطاق والانتشار والطلب قبل سنوات قليلة.
وتبدأ الكلفة من حدود 400 ألف ليرة (27 دولاراً أميركياً) وصولاً إلى ملايين الليرات بحسب ما هو مطلوب، وأحياناً تتم جلسة التجميل الواحدة بمزج تقنيات عدة، مثلاً بوتوكس وفيلر وتقشير، ويمكن تنويع الخيارات تبعاً للإجراء المستهدف.
ويؤكد العاملون في مراكز التجميل أن قاصديهم ليسوا فقط من الأثرياء، بل من طبقات متفاوتة الدخل والمعيشة والأمر لا يقتصر على الإناث بل يتعداه إلى الذكور أيضاً.
وتقول سعاد الموظفة في بنك خاص أن “التجميل إدمان، من جربه مرة سيكرره كل بضعة أشهر”، معللة ذلك بأن من يعتني بشكله يعزز ثقته بنفسه “التجميل معد، لم أكن أفكر يوماً أنني سأحتاج إلى أي إجراء تجميلي، ولكن حين رأيت جفون وجبين صديقتي كيف تغير شكلها، وكأنها عادت بالعمر 10 سنوات إلى الوراء، لم أستطع المقاومة”.
وتضيف “أحقن بوتوكس حول عيني، وفي الجبين كل ستة أشهر، أدخر أموالاً لأقوم بهذا الأمر، لم أعد أستطيع التخلي عنه، في اللحظة التي تدخل فيها عيادة التجميل، للمرة الأولى، تكون كمن تعاطى جرعة مخدر وأدمنها”.
وترجع الطبيبة النفسية غالية سعيّد الإقبال الكبير على مراكز التجميل رغم الضائقة الاقتصادية إلى أسباب نفسية وأخرى ظاهرية.
وتوضح في تصريحات صحافية أن “الأسباب النفسية ترتبط بعدم الثقة بالنفس أحياناً ورفض تقبّل الواقع أو التقدّم في العمر وما له من انعكاسات على شكلنا. أما الأسباب الظاهرية فتلك المتعلّقة بالمجتمع وانتقاداته اللاذعة أو الكلمات السيئة التي قد تطلق أحياناً في وجه بعض السيدات لعدم اهتمامهن بأنفسهن سواء كنصيحة أو انتقاد”.
وتضيف “ولا ننسى دور الفنانين والممثلين والمؤثرين في منصّات التواصل الاجتماعي، الذين ينشرون انطباعاً بحتمية القيام بالإجراءات التجميلية”.
إقرأ أيضا : محتالون يستهدفون مؤثرين من الشرق الأوسط بواسطة أدوات “ميتا”
وترى أن “الاهتمام بالجمال هو حق وواجب على كل إنسان، شريطة ألا يتحوّل إلى هوس يلازمه بشكل يومي. هذا الهوس ولّد أشكالاً تجميلية تشبه بعضها بشكل كبير وبطريقة مبالغ فيها. يجب أن يكون الاهتمام بالجمال في الحد الطبيعي، أما تحوّله إلى متلازمة مرضية فيستدعي تدخّلاً لعلاجه نفسياً ودعم المريض ومساعدته على استعادة ثقته بنفسه”.
وتنافس المراكز التجميلية العيادات المتخصصة عبر عروض مختلفة، تبدو مغرية لكنها وسيلة للتلاعب بالعقول اجتماعياً ونفسياً. ويقول المتخصص في علم النفس السلوكي مؤيد مدنية “إذا أردنا فهم توجه ذوي الدخل المحدود لتلك المراكز فيمكن تحليله من زاوية انعدام الأفق أمامهم، ورؤيتهم الطريق المسدود في نهايته، فيلجأون لصرف أموالهم على ما يسعدهم كالجلوس في المقاهي، أو تنمية ثقتهم بنفسهم كإجراء تعديلات في شكلهم الخارجي تكون كفيلة بمنحهم الرضا ولو بصورة آنية وموقتة، وهذا بعينه ما يفسر المفاخرة أين أجرى كل شخص عمليات تجميله، ومدى أهمية الطبيب الذي أشرف على حاله”.
ويؤكد المختصون أن ما يجري من هوس بالتجميل يمكن إرجاعه إلى نظرية معروفة باسم “تأثير قلم الحمرة” ففي خضم الأزمات الاقتصادية التي تعيشها سوريا حالياً، يطفو على السطح هذه التفسير.
والتوضيح البسيط لاستخدام هذا المعنى هو أنه عندما لا نستطيع شراء المنزل أو السيارة التي كنا نحلم بها بسبب الأزمة الاقتصادية، أو عندما لا نتمكن من قضاء العطلة الصيفية المقررة في أحد المنتجعات ونلغيها، سيكون بمقدورنا في المقابل شراء “قلم حمرة” من أفخر الماركات العالمية.
وابتدع مصطلح “قلم الحمرة” ليونارد لاودر، رئيس مجلس إدارة شركة إستي لودر في عام 2001، عندما لاحظ أن مبيعات أحمر الشفاه، ارتفعت بمعدّل 11 في المئة خلال الأزمة الاقتصادية في العام 2001.
وجاء اقتراح لاودر بعد ملاحظته وجود علاقة تناسب عكسي ما بين الوضع الاقتصادي ومبيعات أحمر الشفاه، حيث حققت مبيعات أحمر الشفاه أداء جيداً أثناء الأزمات الاقتصادية، وأداءً سيئاً عندما كان الاقتصاد قوياً.
ففي العام 2000 كان أحمر الشفاه، أما في العام 2008 كان طلاء الأظافر، وخلال 2008/2009 تحوّل طلاء الأظافر إلى السلعة الأكبر نمواً في عالم التجميل، حيث أقبلت النساء اللاتي فقدن قسما من أموالهن جراء الأزمة على شراء هذا النوع من مستحضرات التجميل.
وأدت هذه التطورات والتغيرات إلى تطوير فكرة “تأثير قلم الحمرة” لتشمل كامل المنتجات الفاخرة ذات الأسعار المعقولة، ونتج عن ذلك وجود عدة مؤشرات وتأثيرات مشابهة لتأثير تلك النظرية.
وفي سوريا، كانت أكدت دراسة سابقة أن أغلب النساء السوريات خلال السنوات الأخيرة يصرفن ثلث رواتبهن على شراء مستحضرات التجميل سواء الماركات الوطنية أو العالمية منها.
ويشكل أحمر الشفاه أحد الأمثلة التي تنسحب على الأجهزة الإلكترونية الصغيرة، النظارات الشمسية، والمطاعم الفخمة، حيث يُعَد “تأثير قلم الحمرة” واحد من الأسباب التي تجعل قطاعات المطاعم والترفيه والمنتجات الفخمة متوسطة الأسعار تعمل بشكل جيد أثناء الأزمات الاقتصادية.
ويأتي ذلك بسبب لجوء المستهلكين الذين يعانون من الضوائق المالية إلى طرق علاج تنسيهم مشاكلهم المالية، أو قد تكون ذاكرتهم الجينية تؤثر بهم و تدعوهم إلى البحث عن شريك.
لكنهم بكل الأحوال لا يستطيعون أن يذهبوا في عطلة إلى إحدى الجزر الاستوائية، ما يدفعهم لشراء هاتف جديد، أو تناول الغداء في مطعم فخم، أو حتى شراء “قلم حمرة”.
ورأت بعض الدراسات النفسية أن قلم الحمرة أو مستحضرات التجميل والزينة، والعمليات التجميلية تنجح في تحسين مظهر الإنسان، وتزيد فرصته في إيجاد شريك ملائم خلال الأزمات.
ولم يعد الاهتمام بالجمال وارتياد مراكز التجميل حكراً على الإناث، كما كان متعارفاً عليه سابقاً، بل بات الرجال يشاركون النساء في العديد من الإجراءات التجميلية، كالعناية بالبشرة وحقن البوتوكس، وإزالة الشعر، وصولاً إلى العمليات الجراحية.
ويؤكد خبراء التجميل أن معظم العاملين في مجال الفن والإعلام من الذكور يفضّلون إخفاء تجاعيد الجبين والوجه، كما أن تحديد الذقن بواسطة الليزر من الإجراءات التجميلية الرائجة جداً لدى الشباب، بالإضافة إلى عمليات ربط المعدة، حيث نرى الذكور أكثر إقبالاً عليها”.
وتعتبر الطبيبة سعيّد أن “الذكور أيضاً باتوا في السنوات الأخيرة يهتمّون بالتجميل، نتيجة ذات الدوافع الموجودة لدى الاناث. فقد بات الذكر يعتبر أن علامات الجمال تكمن في إخفاء الشيب في شعره، وإخفاء تجاعيد جبينه ووجهه، والسبب ليس المجتمع والسوشل ميديا فقط، بل الكثير من النساء يدفعن أزواجهن إلى القيام بإجراءات تجميلية خاصة في حال وجود تفاوت عمري بين الزوجين”.
وبالنسبة لأعمار المرتادين، فإن الاهتمام بالبوتوكس ونفخ الشفاه لم يعد حكراً على سقف عمري، الكثير من الفتيات اللواتي تجاوزن سن 18 بتن يرتدن مراكز التجميل من أجل إجراءات الحقن، بالإضافة إلى تغيير لون البشرة أو العناية بها.
ومؤخراً، يشهد أعداد الزوار العرب إلى دمشق للقيام بعمليات التجميل ارتفاعاً ملحوظاً، خاصة من الجنسيتين اللبنانية والعراقية. ويرجع السبب في ذلك إلى تدني الأجور التي يتقاضاها الأطباء في سوريا مقارنة بزملائهم في الخارج، وتدني أجور اليد العاملة، بالإضافة إلى الاعتماد على الكم لتحقيق الأرباح.
ويقول أطباء التجميل في سوريا إنه في حال تعافي البلد من آثار الحرب واستعادته للأمن، من المؤكد أن البلاد ستشهد توافد أعداد أكبر من المراجعين لمراكز التجميل، أو ما بات يعرف بالسياحة التجميلة، خاصة وأن الطبيب السوري مشهودة له خبرته وكفاءته في الخارج.
كما يؤكد هؤلاء أن إمكانية استقطاب سوريا لوفود السياحة التجميلية يعتمد على تأمين البيئة الاقتصادية والسياحية اللازمة بالإضافة إلى تقديم الدولة للتسهيلات المطلوبة، وهو ما يمكن أن يشكّل قطّاعاً رديفاً للدخل الوطني في ظل الاقتصاد المتآكل نتيجة الحرب والعقوبات الغربية المفروضة على البلاد.
المصدر : صحيفة العرب اللندنية