السودان

إعلان نيروبي ومصير السودان

أخفق حمدوك عندما كان رئيسا للحكومة منذ حوالي خمس سنوات في إنزال النقطتين على الأرض، وسعى إلى إعلاء المواطنة بما تحمله من مكتسبات للجميع، غير أن كوابح قيادات في الجيش وعناصر الحركة الإسلامية صدمته.

تعاملت بعض القوى السودانية بفتور مع إعلان نيروبي الذي وقعه قبل أيام رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك مع رئيس الحركة الشعبية، جناح الشمال، عبدالعزيز الحلو، ورئيس حركة جيش تحرير السودان عبدالواحد نور. فالإعلان الذي احتوى بنودا تتعلق بفصل الدين عن الدولة ومنح حق تقرير المصير لأقاليم الدولة، جاء في زمان غير زمانه، حيث بُحَّ صوت العقيد الراحل جون قرنق للمطالبة بما أسماه السودان الجديد، ومن أبرز مكوناته هاتان النقطتان.

تبنى الكثير من السودانيين، شمالا وجنوبا، المضامين السياسية التي حواها السودان الجديد، غير أن نظام الرئيس السابق عمر البشير المنتمي للحركة الإسلامية أصر على لفظ العلمانية وتقرير المصير، لكنه اضطر إلى القبول بالثانية في حالة جنوب السودان، وراوغ من طالبوا بالأولى وتجريدها من محتواها الديني، إلى أن أسقطت الثورة السودانية حكمه، وبقيت ذيوله رافضة لفصل الدين عن الدولة.

أخفق حمدوك عندما كان رئيسا للحكومة منذ حوالي خمس سنوات في إنزال النقطتين على الأرض، وسعى إلى إعلاء المواطنة بما تحمله من مكتسبات للجميع، غير أن كوابح قيادات في الجيش وعناصر الحركة الإسلامية صدمته، فخرج من الحكومة إثر انقلاب عسكري ولم يتخل عن حلمه في سودان تتعايش فيه كل الأطياف، وفي عقد اجتماعي يراعي الخصوصيات ويؤسس لدولة تحيا في بحر كبير من العواصف.

لم يفت أوان النقاش العقلاني، وعلى القوى الوطنية عدم تجاهل أسباب الحرب بين الجيش والدعم السريع، وأبرزها سيطرة الجيش على مفاصل السلطة، ورغبة الحركة الإسلامية في استعادة نفوذها

قد يكون التوقيع على إعلان نيروبي جاء متأخرا ومن أشخاص لا يستطيعون تطبيقه، غير أن المكسب المهم أن الفكرة لم تمت، وهناك من يريدون تنفيذها في خضم صراع جرف الكثير من مقدرات السودان بسبب استمرار الحرب بين قوات الجيش والدعم السريع، ووجود قوى محكومة برؤى سياسية تجد راحتها بالدوران في الصيغة القديمة التي كبدت الدولة خسائر فادحة، ما جعل حمدوك يوقع على الإعلان بصفته الوظيفية السابقة (رئيس الحكومة) وليس بوصفه رئيسا لتنسيقية القوى المدنية الديمقراطية (تقدم) وتضم تحت لافتتها قوى عدة، لينأى بنفسه عن التجاذبات التي أحدثها الإعلان.

يعلم الثلاثة أن تنفيذ محتوى إعلان نيروبي معدومٌ في هذه المرحلة، فلا حمدوك يملك سلطة تنفيذية، ولا الحلو يستطيع مد بصره أكثر من المناطق التي يسيطر عليها في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، ولا نور يمكنه التحكم في مقاليد الأمور أبعد من المناطق التي تتمركز فيها قواته بإقليم دارفور، فهناك قوى أكبر لها نفوذ عسكري مثل قوات الجيش والدعم السريع، وأخرى مدنية لها نفوذ سياسي أبدت اعتراضا على الإعلان، خاصة بشأن فصل الدين عن الدولة وحق تقرير المصير.

تتراجع قيمة الإعلان وتنحصر في الشق المعنوي وما ينطوي عليه من رسائل، حيث يؤكد أن المشهد الذي يمر به السودان مرفوض من القيادات الثلاثة، ومن الضروري مناقشة الأزمة من جذورها، والبحث عن حلول تعالج أوجه الخلل التي أدت لهذه النتيجة، في مقدمتها رغبة قوى إسلامية فرض أجندتها على السودان بلا اعتبار لتركيبته الحساسة، وبينها تباينات يصعب تذويبها بعيدا عن التوافق حول رؤية تراعي الفروق الشاسعة بين الأقاليم.

طرق إعلان نيروبي هذه النقاط بسخونة في محاولة لتأكيد أن أزمة السودان أبعد من الصراع الدائر بين الجيش والدعم السريع، ولا يعني انتصار طرف على آخر عسكري توفير الأمن والاستقرار في ربوع البلاد، فهناك جيوب متفجرة أو يمكن أن تنفجر مستقبلا ما لم يتم حل مشكلاتها بما يتواءم مع تطلعاتها، وهو ما حاول حمدوك بالتعاون مع الحلو ونور وضع الأسس الحاكمة له، ربما يكون التوقيت غير مناسب، لكن الدلالة التي حملها الإعلان تشير إلى أن ثلاثتهم لم يغيروا قناعاتهم.

وكانت هناك اتصالات بين الثلاثة قبل سنوات قليلة، تمكنت قيادات عسكرية وأخرى نافذة في الحركة الإسلامية من تعطيلها، وخرج حمدوك من السلطة، وظل نور يغرد منفردا محاولا الاحتفاظ بموقف محايد بين الجيش والدعم السريع في الحرب الراهنة.

كما فشلت محاولة عبدالعزيز الحلو إيجاد مساحة مشتركة مع الجيش على أرضية التعاون لتوصيل المساعدات الإنسانية للمواطنين، حيث أراد وفد الجيش قصرها على مناطق معينة، بينما طالبت قيادة الحركة الشعبية بتعميمها على كل أنحاء السودان.

قد يكون التوقيع على إعلان نيروبي جاء متأخرا ومن أشخاص لا يستطيعون تطبيقه، غير أن المكسب المهم أن الفكرة لم تمت، وهناك من يريدون تنفيذها في خضم صراع جرف الكثير من مقدرات السودان

لن يستطيع إعلان نيروبي تصحيح أخطاء تاريخية وحده، فأطرافه لا تتحكم في مفاتيح القرار السياسي، ولا تملك قوة يمكن بموجبها إقناع الآخرين بمضمونه، وما حمله كشف عن وجود قناعات بأهمية مناقشة أزمات السودان الهيكلية. فالتوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار في غياب رؤية حول اليوم التالي للحرب سوف يعيد البلاد إلى الحلقة ذاتها التي كافح العقيد جون قرنق من أجلها، وانتهت فصولها بتقرير مصير جنوب السودان إلى انفصال لم يحقق ما تمناه المواطنون من هدوء واستقرار.

ولذلك فالحديث بارتياح عن فصل الدين عن الدولة وحق تقرير المصير، ليس حلا سحريا لمشاكل السودان، ما لم تكن هناك رؤية سياسية تنطلق من أرض صلبة تتمكن من معالجة التشوهات الرئيسية في الدولة، ومن ثمنوا إعلان نيروبي أو رفضوه عليهم تناول المسألة بطريقة تتناسب مع طبيعة السودان، حيث واجهت الدولة تجريفا على مستويات مختلفة على مدار العقود الماضية.

ويحتاج التحرك الثلاثي الذي قام به حمدوك والحلو ونور إلى المزيد من المناقشات بمشاركة العديد من القوى الوطنية بهدف تحويل الفكر إلى واقع ملموس، لأن بندي العلمانية وتقرير المصير تاليان للتوصل إلى تسوية سياسية حقيقية ووقف الحرب.

جاء التركيز على البندين لما يحملانه من تقديرات متعارضة، وما أثاراه سابقا من جدل بين قوى سودانية عدة، وهما في النهاية جس نبض للحركة الإسلامية التي تدفع قياداتها ورموزها نحو استمرار الحرب وتنأى عن مناقشة بعض القضايا الحيوية التي لها رؤية مختلفة فيها عن كثيرين، وبدت حصيلة الزوبعة التي أثارها الإعلان ضئيلة، ولم يتم التعامل معه بالجدية الكافية أو يحظى بتكثيف الضوء عليه.

لم يفت أوان النقاش العقلاني، وعلى القوى الوطنية وهي في خضم سعيها لترتيب أوراقها عدم تجاهل أسباب الحرب بين الجيش والدعم السريع، وأبرزها سيطرة الجيش على مفاصل السلطة، ورغبة الحركة الإسلامية في استعادة نفوذها على طول البلاد وعرضها، ما يعني أن إيجاد حل لهذين المحورين هو جزء أساسي في تجاوز الأزمة، ولن يأتي ذلك في غياب حسم إشكاليتي فصل الدين عن الدولة، وحق الأقاليم في تقرير مصيرها إذا لم تجد عدالة في توزيع السلطة والثروة من جانب الحكومة المركزية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى