في ظل التحولات الكبرى التي يشهدها المشهد الفلسطيني، بات من الضروري إعادة النظر في الأيديولوجيات التي تحكم الفصائل الوطنية، بحيث تعكس التطلعات الحقيقية للشعب الفلسطيني، بدلًا من أن تكون مجرد امتداد لصراعات الماضي أو خاضعة لتوازنات القوى الإقليمية. لقد حان الوقت لإعادة رسم الخطاب السياسي الفلسطيني ليكون أكثر واقعية، وملامسًا لاحتياجات الناس، بعيدًا عن الجمود الأيديولوجي والانغلاق الفكري.
من الولاء الفصائلي إلى الولاء للمشروع الوطني
على مدار عقود، تحولت الفصائل الفلسطينية من حركات تحرر وطني إلى كيانات تنظيمية تسعى للحفاظ على وجودها في الساحة السياسية، حتى لو كان ذلك على حساب المصلحة الوطنية الجامعة. لذلك، فإن أي عملية لإعادة صياغة الأيديولوجيات يجب أن تبدأ بتقديم الولاء للمشروع الوطني الفلسطيني على الولاء الفصائلي، بحيث يصبح الهدف هو تحقيق تطلعات الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال، وليس مجرد تعزيز نفوذ هذا الفصيل أو ذاك.
دمقرطة الفكر السياسي الفلسطيني
لقد وُلدت الفصائل في بيئات فكرية متباينة، بين القومية واليسارية والإسلامية، وهو ما أدى إلى انقسامات أيديولوجية عميقة انعكست على الحياة السياسية الفلسطينية. لكن في ظل التغيرات الحالية، لم يعد بالإمكان استمرار الفكر الشمولي الذي يعتمد على الإقصاء والهيمنة، بل يجب أن يكون هناك أيديولوجيا جامعة تفتح المجال للتعددية السياسية، وتعزز منطق الشراكة الحقيقية بدلًا من الصراع الداخلي المستمر.
اقرأ أيضا.. فلسطين من بلفور إلى ترامب
ما بين المقاومة والتنمية: نحو رؤية متكاملة
المقاومة كانت، ولا تزال، جزءًا أساسيًا من الهوية الوطنية الفلسطينية، لكن يجب إعادة تعريفها بحيث تشمل كافة أشكال الكفاح، بما في ذلك المقاومة الاقتصادية والثقافية والسياسية. فالتحرر الوطني لا يمكن أن يتحقق دون نهوض اقتصادي واستقلال مالي، كما أن القوة السياسية لا تُكتسب فقط من السلاح، بل من القدرة على بناء نموذج تنموي قوي ومستدام.
كسر ثنائية “المقاومة” و”التسوية”
لأعوام طويلة، ظل الخطاب السياسي الفلسطيني محصورًا بين تيارين رئيسيين: الأول يدعو إلى المقاومة المسلحة كخيار وحيد، والثاني يراهن على المفاوضات دون أوراق قوة. غير أن الواقع اليوم يفرض تجاوز هذه الثنائية القاتلة، والبحث عن استراتيجية أكثر ذكاءً، تدمج أدوات الكفاح المختلفة وفق رؤية وطنية موحدة، بحيث لا يكون العمل العسكري عبئًا بلا أفق، ولا تكون الدبلوماسية خيارًا فارغًا من القوة.
إعادة تعريف التحالفات والعلاقات الدولية
في عالم متغير متعدد الأقطاب، من غير المنطقي أن تستمر الفصائل الفلسطينية في بناء تحالفاتها وفق اعتبارات أيديولوجية تقليدية. المطلوب اليوم هو سياسة خارجية فلسطينية مرنة، تقوم على تحقيق المصالح الوطنية بعيدًا عن الاصطفافات الإقليمية التي أثبتت فشلها في دعم القضية الفلسطينية بشكل حقيقي.
فإعادة رسم الأيديولوجيات الوطنية ليس مجرد ترفٍ سياسي، بل هو ضرورة وجودية لضمان استمرار النضال الفلسطيني بأشكال أكثر فاعلية. السؤال الذي يطرح نفسه اليوم: هل ستتمكن الفصائل الفلسطينية من تطوير خطابها السياسي بما يتلاءم مع تطلعات الشارع الفلسطيني؟ أم أن البديل سيكون بروز قوى جديدة خارج الأطر التقليدية؟
الفصائل الفلسطينية بين احتكار القرار وتهميش الدور الشعبي
لطالما كان الشعب الفلسطيني هو العنصر الأبرز في الصمود والنضال ضد الاحتلال، إلا أن العقود الأخيرة شهدت تراجعًا ملحوظًا في دوره لصالح القوى المسلحة التي احتكرت القرار الوطني، وصادرت المساحة التي كانت مخصصة للفعل الشعبي الجماهيري. هذا التحول لم يقتصر على الجانب العسكري، بل امتد إلى السياسة والاقتصاد والمجتمع، مما أدى إلى إضعاف المبادرات الشعبية التي كانت تاريخيًا أساس قوة الفلسطينيين.
من الانتفاضة الأولى إلى عسكرة المشهد
خلال الانتفاضة الأولى (1987-1993)، أثبتت المقاومة الشعبية أنها قادرة على تحقيق إنجازات ملموسة، حيث نجحت في إرباك الاحتلال عبر الإضرابات، والعصيان المدني، والمظاهرات الجماهيرية، دون أن تكون الفصائل المسلحة في الواجهة. لكن مع مرور السنوات، وبعد توقيع اتفاق أوسلو، بدأت الفصائل المسلحة في تعزيز نفوذها، وأصبح الخطاب السياسي الفلسطيني أكثر ارتباطًا بالعمل العسكري، مما أدى إلى تراجع الفعل الجماهيري لصالح المواجهة المسلحة كخيار رئيسي.
ورغم أن الانتفاضة الثانية (2000-2005) أظهرت قدرة الكفاح المسلح على فرض معادلات جديدة، إلا أن العسكرة المفرطة ألحقت ضررًا بالدور الشعبي، حيث باتت الفصائل تسيطر على المشهد، وتحولت المقاومة من كونها عملاً جماهيريًا واسع النطاق إلى عمليات عسكرية محدودة ضمن حسابات فصائلية ضيقة.
نحو رؤية فلسطينية تخاطب القوى المعتدلة في إسرائيل
في خضم الصراع المستمر بين الفلسطينيين والإسرائيليين، من السهل الانجراف نحو رؤية أحادية تركز فقط على المواجهة، دون النظر إلى التفاعلات الداخلية للطرف الآخر. لكن الواقع يُحتم على الفلسطينيين إدراك أنهم ليسوا وحدهم في المشهد، وأن هناك قوى إسرائيلية معتدلة تؤمن بضرورة إنهاء الاحتلال، وتدافع عن حقوق الشعبين في العيش بسلام. هذه القوى، رغم ضعف تأثيرها حاليًا أمام تصاعد اليمين المتطرف، لا تزال تشكل جزءًا من المعادلة، ويجب العمل على تعزيز مواقفها ضمن استراتيجية فلسطينية واضحة.
لماذا يجب مخاطبة التيار المعتدل في إسرائيل؟
كسر احتكار اليمين المتطرف للمشهد السياسي
اليمين الإسرائيلي، ممثلًا بحكومات متعاقبة، يروّج لرواية مفادها أن الفلسطينيين يرفضون أي تسوية، مما يبرر استمرار الاحتلال والاستيطان.
من خلال التواصل مع القوى المعتدلة، يمكن تقويض هذه الرواية وإثبات أن الفلسطينيين ليسوا ضد التعايش، بل ضد الاحتلال وسياساته.
خلق تأثير داخل المجتمع الإسرائيلي
لا يمكن تجاهل أن التغيير السياسي في إسرائيل يأتي من الداخل، والمجتمع الإسرائيلي يتأثر بالخطاب العام.
تعزيز الأصوات الداعمة للحقوق الفلسطينية داخل إسرائيل يمكن أن يخلق ضغطًا على الحكومة، خاصة في أوقات الأزمات السياسية.
تقديم رؤية فلسطينية مقنعة للعالم
المجتمع الدولي ينظر عادة إلى الصراع من زاوية ثنائية، حيث يتم تصويره كصراع بين طرفين متشددين.
من خلال بناء تحالفات مع الأصوات المعتدلة في إسرائيل، يمكن إبراز الرواية الفلسطينية كقضية حقوقية عادلة، وليست مجرد نزاع سياسي أو ديني.
كيف يمكن تعزيز القوى المعتدلة في إسرائيل؟
تبني خطاب فلسطيني يخاطب المجتمع الإسرائيلي بذكاء
بدلاً من الاكتفاء بمخاطبة المجتمع الدولي والعربي، يجب أن يكون هناك خطاب فلسطيني موجه إلى الإسرائيليين أنفسهم، يوضح أن الاحتلال ليس فقط مشكلة فلسطينية، بل يشكل خطرًا على مستقبل الإسرائيليين أيضًا.
التركيز على نقاط التقاء، مثل رفض الاستيطان باعتباره خطرًا على حل الدولتين، وتعزيز خطاب الحقوق المتساوية للجميع.
فتح قنوات حوار مع القوى المناهضة للاحتلال
هناك منظمات إسرائيلية مثل “بتسيلم” و**”السلام الآن”** و**”كسر الصمت”** التي تعمل على فضح ممارسات الاحتلال، وهذه الأصوات تحتاج إلى دعم فلسطيني غير مباشر لتعزيز موقفها.
يمكن خلق حوارات غير رسمية بين شخصيات فلسطينية مستقلة وهذه القوى، بهدف تبادل الرؤى والعمل على تحييد الأصوات المتطرفة في كلا الجانبين.
تشجيع العمل المشترك في قضايا حقوق الإنسان
التعاون مع منظمات إسرائيلية تدافع عن الحقوق الفلسطينية في المحاكم أو في الإعلام يمكن أن يعزز الشرعية الدولية للنضال الفلسطيني.
دعم المبادرات المشتركة مثل الاحتجاجات ضد هدم المنازل، أو حملات مقاطعة المنتجات القادمة من المستوطنات، قد يساهم في بناء قاعدة ضغط داخلي ضد سياسات الاحتلال.
ليس المطلوب الرهان على التيارات المعتدلة في إسرائيل كبديل للنضال الفلسطيني، بل دمجها في إطار استراتيجية مقاومة ذكية، تستثمر كل الأدوات الممكنة لتحقيق الحقوق الفلسطينية. ففي النهاية، كلما زادت قوة هذه الأصوات داخل إسرائيل، كلما قلّت قدرة اليمين المتطرف على فرض أجندته، مما يفتح المجال أمام حلول أكثر عدالة للشعبين.