غزة

إعادة إعمار غزة وتأهيل سياسي لأطراف الصراع

ويتضح من خلال الحرب الأخيرة على غزة ميلا عالميا متجددا في حكومات الغرب وفي اوساطها الشعبية إلى رفض مستمر لسياسة اليمين الاسرائيلي

لا أحد من الأنظمة العربية يريد انتصار حركة حماس في معركة غزة، ولا احد من الجماهير العربية، ما خلا نسبة ضئيلة، يريد سيادة منطق الاخوان المسلمين وثقافتهم العقائدية وطريقتهم في الحكم وادارة المجتمعات، وكل هؤلاء، وبنفس القوة، لا يريدون هزيمة الشعب الفلسطيني أمام آلة القتل والجريمة الاسرائيلية، وتحقيق اهداف اليمين الاسرائيلي باستكمال الإستيلاء على ارض فلسطين التاريخية، عبر ترحيل الشعب الفلسطيني في غزة، الى شمال صحراء سيناء في مصر، وعبر تمدد المستوطنات والاستيلاء على الاراضي الفلسطينية وهدم البيوت وتفجيرها في الضفة الغربية لنهر الاردن ودفع سكانها للهجرة الى الأردن.

ويتضح من خلال الحرب الأخيرة على غزة ميلا عالميا متجددا في حكومات الغرب وفي اوساطها الشعبية إلى رفض مستمر لسياسة اليمين الاسرائيلي هذه، ولاعتراف بمظلومية الشعب الفلسطيني وعدالة قضيته وحقه باقامة دولته الوطنية السيدة والمستقله على حدود السادس من حزيران من سنة ١٩٦٧.

وتتفاوت مستويات التأييد للشعب الفلسطيني في اوساط الغرب ودوله، بين هذا التعاطف السياسي مع القضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني، وحق تقرير المصير، وبين التعاطف الانساني الذي ظهر على شكل مظاهرات ومواقف اعلامية نقلتها وسائل التواصل الاجتماعي، امام هول جرائم الحرب الاسرائيلية، من استهداف الاطفال والنساء، وتدمير المستشفيات ومدارس الانروا التي تأوي النازحين، إلى الحصار والعقاب الجماعي بالاجلاء السكاني وقطع امدادات الماء والكهرباء والوقود والغذاء والدواء، كما تملؤ طاولات حوارات نخب الغرب وقاعات نقاشاته، طروحات اكثر راديكالية تطرح مشروعية العنف الفلسطيني في وجه اسرائيل كدولة محتلة وكنظام ابارتهايد وتمييز عنصري.

في المحصلة العامة لا يريد العالم اليوم بمعظم اطرافه وحساسياته، واتجاهاته شرقا وغربا السير ببرنامج الحد الاقصى لحركة حماس، ولا ببرنامج الحد الاقصى لحكومة المجانين اليمينية في اسرائيل، والمفارقة التي يدفع ثمنها الناس في فلسطين وكل انحاء العالم، هو ان صناعة الحدث اليومي تتم يوميا على ايادي حركة حماس والجهاد الاسلامي، وغيرهم من تنظيمات العنف المسلح، كما تتم على ايادي نتنياهو وبن غفير وسميرميتش وغالانت وجيش الاحتلال الاسرائيلي…

الأحداث تصنعها برامج الحد الأقصى، ومعالجة النتائج والتداعيات تتولاها بقية اطراف الدنيا وشعوبها!!؟
فما العمل لسحب صناعة الاحداث من اصحاب برامج الحد الاقصى؟ وجعل الأحداث صناعة لاطراف تريد تسويات ومصالحات تاريخية واستقرارا مستداما!؟

مفتاح الانتقال من حالة صناعة الحدث عبر المواجهة بين طرفي برنامجي الحد الاقصى، الى حالة صناعة الحدث من قبل اطراف التسويات والتهدئة ونبذ العنف، هما مسألتان تشكلان ارضية مشتركة يمكن ان تكون قاعدة انطلاق ينبني عليها التحرك المطلوب؛

المسألة الاولى هي الاستناد الى الشرعية الدولية وقرارات الامم المتحدة الصادرة عن الجمعية العامة او مجلس الامن الدولي، ذات الصلة بالصراع العربي والفلسطيني مع اسرائيل، بما في ذلك القرار ١٨١ الذي قضى بتقسيم فلسطين بين دولة يهودية ودولة فلسطينية والقرار ١٩٤ الذي اكد الحق بعودة اللاجئين…

المسألة الثانية هي اقلاع الغرب عن الممارسة المشينة لحكوماته ووسائل اعلامه بازدواجية المعايير والتعامل باستعلاء معياري والادعاء، بتفوق اخلاقي يثبت التاريخ بطلانه، بل ان هذا التاريخ يذكر ويثبت الماضي الاجرامي لحكومات هذا الغرب في كل ازمات الدنيا وحروبه، واذا كان التاريخ ليس في مصلحة النفاق المعياري الغربي، فإن الحاضر ايضا يعري هذا النفاق ويفضح هذا الاستعلاء، فالمندوبة الاميركية في مجلس الامن الدولي تفجع من صورة اطلاق محتجزين، أطفال ونساء من قبضة حركة حماس، والتي تعتبرها حكومتها ارهابية، لكنها تتجاهل وتخفي بلؤم وخبث معهود، الحقيقة العارية، بان هؤلاء قد تمت مبادلتهم باطفال ونساء اسرى فلسطينيين اعتقلتهم دولة اسرائيل الديموقراطية وابقتهم في السجون باوامر ادارية ودون محاكمة، قبل ٧ اوكتوبر وقبل حرب غزة.

لقد أكد العرب مرارا وتكرارا، وبشكل عملي، انهم جاهزون لتسوية الصراع العربي الاسرائيلي عبر سلسلة من الاتفاقات والمعاهدات من كمب ديفيد الى وادي عربة، وان قسما منهم الذي دخل اتفاقات ابراهام كالامارات العربية والبحرين والسودان، مستعد لتطبيع العلاقات مع اسرائيل، كما اكد الفلسطينيون عبر اتفاقية اوسلو على خيارهم بالسير بتسوية تعتمد حل الدولتين، وتهدف إلى إقامة دولة فلسطينية سيدة ومستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة على حدود ال ٦٧، ولقد اثبتت الوقائع الثابتة أن رفض التسوية والحلول السلمية للصراع استنادا لقرارات الشرعية الدولية، كان خيار اليمين الصهيوني القومي والديني، الذي تعاظم تأثيره سنة بعد اخرى بعد قتل رابين، وتولي قيادة حكومات الكيان شارون ونتنياهو، وتصاعد عمليات الاستيطان في الضفة بواسطة متطرفين يهود يأتون بغالبيتهم من الولايات المتحدة الاميركية، وان مسؤولية افشال التسوية السلمية على المسار الفلسطيني، لاتنحصر بسعي حماس ومحور الممانعة، بقيادة ايران، على مواجهة هذه التسوية..

بل ان الحاجز الحقيقي والمانع الأهم، كان فعل اليمين الاسرائيلي بمحاصرة عرفات وقتله، والانتقال الى تهويد الضفة، وكانت مساهمة اميركا بالانقلاب على حل الدولتين الذي ضمنته في اوسلو وكمب ديفيد وواي ريفر، مساهمة اساسية من خلال تخلي ادارة اوباما عن رعاية عملية التسوية، ومن خلال انقلاب ادارة ترامب على مبدأ “الارض مقابل السلام” الذي تبناه مؤتمر مدريد بمشاركة اميركا، حيث اعترفت هذه الادارة بضم الجولان السورية الى اسرائيل، واعترفت بالقدس عاصمة ابدية للكيان، ثم رعايتها لصفقة القرن التي اسقطت حق الشعب الفلسطيني باقامة دولته، واعترفت بحقوق الفلسطينيون كافراد لهم احتياجاتهم الانسانية، وليس كشعب له حق تقرير المصير واقامة دولته السيدة على أراضيه.

وعلى الرغم من أن الإدارة الاميركية في عهد اوباما، قد مررت في مجلس الأمن الدولي قرار يعتبر المستوطنات في الضفة غير شرعية، وتشكل عقبة في وجه عملية السلام، إلا أن هذا الموقف كان لفظيا لان قدرة الادارة في هذا الملف كبيرة، فغالبية المستوطنين الجدد في الضفة والذين ينتمون لتيار مأئير كاهانا هم اميركيون وقدرة الادارة الاميركية على معاقبتهم وشل حركتهم وضبط تصرفاتهم كبيرة وحاسمة.

وتشكل اليوم مطالبة الرئيس المصري باعتراف دولي وفوري بالدولة الفلسطينية كما الطلب السعودي في جلسة مجلس الأمن الدولي الأخيرة، لاعتماد قرار دولي جديد يعترف بالدولة الفلسطينية ويقبلها كعضو كامل في هيئة الامم المتحدة، محاولة لتثمير الموقف الدولي باتساع تأييد حل الدولتين، ومحاولة لالزام الادارة الاميركية والدول الغربية بما تفصح عنه من مواقف، سعيا لضمان عدم نقضها لالتزاماتها كما فعلت بعد مؤتمر مدريد.

قد تشكل هذه الاجراءات بداية لطريق ترتسم في نهايته بقعة ضوء وامل، لكنها اجراءات ضرورية لرسم طريق للمستقبل، لكنها لن تكون كافية للتقدم نحو الهدوء والاستقرار، ولذلك يتوجب ان يرافقها اجراءات ملحة وعاجلة تواكبها، يقول جو بايدن بشأن الصراع الحالي : “لن تكون هناك عودة إلى الوضع الذي كان في 6 تشرين الأول” فكيف يمكن خلق واقع جديد في غزة واقامة تسوية إسرائيلية- فلسطينية؟

لابد من اعتماد مسارين متلازمين الاول سياسي يتضمن اعادة تاهيل سياسي لكلا القيادتين الفلسطينية والقيادة الاسرائيلية، أنّ أيّ أمل في الدفع نحو عملية لإنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني يحتاج إلى قادة من كلا الجانبين يتمتّعون بالقدرة والرغبة في اتخاذ قرارات صعبة للغاية وتاريخية، والالتزام بها.

هناك حاجة إلى قيادة فلسطينية جديدة تنبثق من اعادة بناء منظمة التحرير، وتحقيق الوحدة الفلسطينية عبر ادماج حركتي جماس والجهاد في اطرها، وإصلاح الممارسات الرخوة للسلطة الفلسطينية و الزعيم الفلسطيني الأكثر شعبية، مروان البرغوثي، الذي يقضي حالياً خمسة أحكام بالسجن المؤبّد في أحد السجون الإسرائيلية، يمكن ان يكون على رأس الحلّ الأكثر منطقية وقابلية للتنفيذ، والحكم الفلسطيني الجديد يكتسب شرعيّته عن طريق الانتخابات، وتكون السلطة الفلسطينية عنصراً رئيسياً في الحكم المستقبلي في غزة.

أنّ تمكين السلطة الفلسطينية سيتطلّب ربط إعادة الإعمار والحكم في غزة بعملية جادّة ذات مصداقية لحلّ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، أي أنّه لا بدّ من ربط شرعية السلطة الفلسطينية، عبر الانتخابات، بجهد حقيقي للتفاوض على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، على أساس حلّ الدولتين، بما في ذلك ضبط الاستيطان في الضفه الغربية والعمل على انهاؤه.
من حانب آخر إسرائيل واجهت أخطر هجوم في تاريخها، و٧ اوكتوبر هو اليوم الأكثر دموية بالنسبة لليهود منذ تاسيس الكيان.

والرأي العامّ الإسرائيلي، الذي لا يزال يترنّح من أحداث 7 تشرين الأول، لن يكون في حالة مزاجية لتقديم تنازلات كبيرة بشأن دولة فلسطينية على حدوده.

إن إمكانية تحقيق مثل هذه الخطوة بوجود الحكومة الإسرائيلية الحالية، امر يكاد يكون مستحيلا، فهل لدى دول الغرب واميركا الرغبة والقدرة على اعادة تاهيل السلطة الاسرائيلية لإرساء واقع جديد في غزة والضفة الغربية على الأقلّ؟. ومن المؤكّد أنّ الدفع باتجاه السلام الإسرائيلي الفلسطيني سيعني احتكاكاً بين المجتمع الدولي واسرائيل أو ما هو أسوأ من ذلك.

أما المسار الثاني فهو اقتصادي اعماري ويتضمن اعادة اعمار غزة وجعل مرافقها العامة من مستشفيات ومدارس وماء وغذاء ووقود مستقلة تماما عن اسرائيل بل مرتبطة بالجانب المصري وجزءا من الامن القومي المصري.

أنّ الأولوية بعد الحرب هي لإعادة بناء قطاع غزة المدمّر والمصدوم، ودعم السكان المشرّدين، أي نحو نصف سكان غزة، وهي مهمّة ضخمة. وفي حال بقيت القوات الإسرائيلية موجودة فيها بانتظار آلية انتقالية لضمان الأمن والنظام، مما سيجعل كلّ جهد لإعادة الإعمار وتلبية الاحتياجات الفورية للسكان أكثر صعوبة، فإسرائيل سترغب في تفتيش موادّ البناء، لمنع استخدامها في حفر الأنفاق أو تصنيع الأسلحة، بينما ستبحث إيران عن فرص لتوفير الأموال والموارد اللازمة لتغذية التمرّد؟

إن إعادة إعمار غزة وأيّ عملية سلام فاعلة قد تتبعها، ستكون ممكنة بتلازمها مع اعادة تاهيل سياسي لطرفي الصراع ومع ضرورة أن تلعب الدول العربية الرئيسية مثل قطر ومصر والسعودية دوراً حاسماً في هذه العملية من خلال توفير الدعم المالي والسياسي؟

د. حارث سليمان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى