مع سقوط النظام السوري، وتحول مجريات الأحداث في البلاد، يجد السوريون أنفسهم أمام مرحلة جديدة مليئة بالتحديات الكبرى، أبرزها إعادة إعمار سوريا. ورغم أن هذه المهمة كانت حاضرة في الوعود السياسية من قبل الأطراف المختلفة، فالواقع يشير إلى أن التكاليف المتوقعة لهذه العملية تفوق بكثير القدرة المالية والإدارية للحكومة الجديدة.
لم تعد قضية إعادة البناء مجرد مسألة استعادة البنية التحتية، أو ترميم المدن التي دمرتها الحرب، بل أصبحت تتداخل مع تساؤلات أعمق تتعلق بالشرعية السياسية، والقدرة على استعادة الثقة المحلية والدولية.
وفي ظل أزمة اقتصادية خانقة، وانخفاض قيمة الليرة السورية، وصعوبة الوصول إلى الأسواق العالمية بسبب العقوبات، تصبح التحديات الاقتصادية أكبر من مجرد توفير التمويل اللازم؛ فالعقوبات الغربية على سوريا، خاصة بعد محاولات النظام الاستمرار في سياسات القمع، فرضت حصارًا اقتصاديًّا مدمرًا جعل إعادة الإعمار أمرًا شبه مستحيل.
إحصاءات دولية
وفقًا لتقرير البنك الدولي الصادر في عام 2017، تعرض أكثر من ثلث المساكن في سوريا للأضرار، كما تم تدمير أو تضرر حوالي نصف المنشآت التعليمية والطبية في مختلف المناطق المتأثرة بالنزاع.
هذا التدمير الشامل أثر بشكل كبير على توفير الخدمات الأساسية للمواطنين في مجالات الصحة والتعليم.
تشير التقديرات إلى أن الخسائر الاقتصادية الناتجة عن الحرب تراوحت بين 226 و250 مليار دولار، أي ما يعادل أربعة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي لسوريا في عام 2010. وقد شملت هذه الخسائر تدميرًا واسعًا للبنية التحتية المادية، بالإضافة إلى انهيار قطاعات اقتصادية أساسية مثل الزراعة والصناعة والنقل.
في الوقت نفسه، بلغ تأثير الحرب على قطاع الإسكان أوجه، حيث قدر أن ما يقرب من 40% من المنازل قد تضررت أو دمرت بشكل كامل. وبلغ عدد المباني التي تضررت أو دمرت في مختلف أنحاء البلاد أكثر من 200,000 مبنى، ما يشمل المساكن والمنشآت.
هذا الحجم الهائل من الأضرار يعقد بشكل كبير أي جهود لإعادة الإعمار، حيث تتطلب هذه العملية استثمارات ضخمة وجهودًا متكاملة.
من الناحية الاقتصادية، أشار تقرير البنك الدولي إلى أن الخسائر الناتجة عن تدمير البنية التحتية المادية وحدها تمثل حوالي 68% من إجمالي الأضرار التي لحقت بالبلاد. تشمل هذه الخسائر شبكات الكهرباء والمياه، وشبكات الطرق، والمنشآت الحكومية والمرافق العامة.
أصبحت عملية إعادة الإعمار مهمة معقدة تتطلب تدخلات محلية ودولية منسقة بشكل جيد، مع ضرورة وجود إصلاحات سياسية لضمان تحفيز الدعم الدولي.
أيضًا، وفقًا لتقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الصادر في عام 2022، شهدت سوريا انخفاضًا بنسبة 16% في قيمة مؤشر التنمية البشرية بين عامي 2010 و2022، مما يعادل خسارة 35 عامًا من التنمية.
كما انخفض ترتيبها العالمي من 117 في عام 2010 إلى 157 في عام 2022. بالإضافة إلى ذلك، قدرت الأمم المتحدة في عام 2018 تكلفة الدمار في سوريا بنحو 388 مليار دولار، وهو ما يمثل حجم الدمار في رأس المال المادي وتوزعه القطاعي.
تظهر هذه الإحصاءات حجم الدمار الكبير الذي لحق بالبنية التحتية في سوريا، ما يضع تحديات هائلة أمام جهود إعادة الإعمار.
من سيتحمل أعباء إعادة الاعمار
في ظل عدم قدرة البلاد على تغطية التكاليف ذاتيًا؛ بسبب ان التكاليف المقدرة أكبر من الناتج الإجمالي المحلي بفروقات ضخمة، وخصوصًا في ظل التهالك الناجم عن عقد ونيف من الحرب.
نتوجه هنا إلى النظر إلى خيار الحصول على تمويل دولي، وهذا يحتاج إلى اعتراف شرعي بالحكومة المتسلمة، ورفع العقوبات المفروضة على الدولة السورية.
إذا تحققت تسوية سياسية تؤدي إلى مرحلة ما بعد النزاع، فإن البنك الدولي، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، هم أبرز المرشحين لإعادة الإعمار في سوريا، نظرًا لخبراتهم الكبيرة في تمويل وإدارة مشاريع التنمية.
كما أن دورهم في دعم إعادة بناء البنية التحتية، وتحقيق الاستقرار السياسي، ومساعدة سوريا على الاندماج مجددًا في المجتمع الدولي، يجعلهم فاعلين رئيسيين في مرحلة ما بعد النزاع.
فالبنك الدولي يتمتع بقدرة كبيرة على التنسيق بين مختلف الدول والمنظمات، بما في ذلك الدول المانحة والمنظمات غير الحكومية والشركات الخاصة، ما يجعله لاعبًا أساسيًّا في إدارة المشاريع الكبيرة والمعقدة في مرحلة إعادة الإعمار.
هذه القدرة على التنسيق تؤهله لأن يكون الوسيط الأساسي بين الأطراف المختلفة في سوريا، سواء من حيث التمويل أو التعاون الفني.
أما الولايات المتحدة، فهي من أبرز القوى الاقتصادية في العالم، ولديها خبرة كبيرة في تمويل مشاريع إعادة الإعمار في مناطق النزاع بعد الحروب، كما حدث في العراق وأفغانستان.
إذا حدث انتقال سياسي في سوريا بعد سقوط النظام، من المحتمل أن تلعب الولايات المتحدة دورًا رئيسيًّا في تقديم مساعدات اقتصادية ضخمة لإعادة بناء البنية التحتية، وتحفيز النمو الاقتصادي. الوكالة الأميركية للتنمية الدولية USAID)) هي إحدى الأدوات الرئيسية التي يمكن استخدامها لتحقيق ذلك.
آثار الدعم الدولي على المستقبل الاقتصادي
لكن ما يثير المخاوف من وراء هذا الدعم هو تجارب سابقة في التمويل لإعادة الإعمار في دول دمرت بسبب النزاع المسلح.. على سبيل المثال، في العراق بعد 2003، قدمت الولايات المتحدة تمويلًا عبر “صندوق إعمار العراق”، حيث أنفقت أكثر من 60 مليار دولار، لكن هذا كان مرتبطًا بعقود طويلة الأجل في قطاع النفط.
وفي أفغانستان، أنفقت الولايات المتحدة أكثر من 145 مليار دولار لإعادة الإعمار، بينما قدم الاتحاد الأوروبي حوالي 4 مليارات يورو لدعم التنمية. الشركات المساهمة مثل KBR وDynCorp حصلت على عقود ضخمة لإعادة بناء المرافق والبنية التحتية. وبالمقابل، تم الحصول على عقود طويلة الأجل لاستغلال المعادن النادرة مثل الليثيوم، وتعزيز النفوذ العسكري والسياسي.
في لبنان، بعد الحرب الأهلية ساهمت السعودية والاتحاد الأوروبي في إعادة الإعمار، لكن ذلك عزز النفوذ السياسي للمساهمين.
وفي البوسنة والهرسك بعد اتفاقية دايتون 1995، قدم الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة تمويلًا كبيرًا مقابل تعزيز نفوذ الاتحاد الأوروبي عبر دمج البوسنة في برامجه التنموية والسياسية. ودول الخليج ركزت على تعزيز الروابط الثقافية والدينية.
الحصول على الدعم من البنك الدولي، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي قد يؤدي إلى تحسين الوضع في سوريا من خلال إعادة بناء البنية التحتية، وتحفيز الاقتصاد، وتعزيز الاستقرار السياسي.
لكن هذه العملية لن تكون خالية من التحديات، وستحتاج إلى تنفيذ إصلاحات سياسية واقتصادية دقيقة، بالإضافة إلى إدارة التوترات الاجتماعية والصراعات الداخلية التي قد تنشأ. كما يجب الحذر من بيع أصول الدولة مقابل الحصول على دعم دولي.