بعد مرور ستة أشهر على الاعتداءات التي ارتكبتها “حماس” في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تبدو إسرائيل عالقة مكانها. فعلى رغم أن حربها في غزة وجهت ضربات موجعة إلى “حماس” ومن المستبعد أن تتمكن الحركة من تنفيذ هجوم مماثل في المستقبل القريب، أو أبداً، فإن ثمن هذا النجاح باهظ، سواء من ناحية الخسائر في صفوف الفلسطينيين أو من ناحية الضرر الذي لحق بسمعة إسرائيل. وما زالت إسرائيل بعيدة كل البعد من تحقيق هدفها المتمثل في القضاء على “حماس”، ويبدو أنها عالقة في حملة عسكرية لن تحقق على الأرجح سوى تقدم تدريجي وبكلفة باهظة.
بعد السابع من أكتوبر 2023، أقسم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على “تدمير حماس” من خلال قتل قادتها، وتحطيم قواتها العسكرية، والقضاء على بنيتها التحتية، وتعهد بمنع وقوع هجوم مماثل ووعد بأن يحاول إعادة الرهائن الذين احتجزتهم “حماس”، بما في ذلك جثث القتلى. علاوة على ذلك، أوضح أنه يريد أن يضمن ردع أي هجمات يشنها أعداء إسرائيل الآخرون، من بينهم “حزب الله” في لبنان.
في الواقع، لقد وجهت إسرائيل ضربة قوية لـ”حماس”، لكنها فشلت في تمهيد الطريق لتشكيل حكومة جديدة ناجحة في غزة، وهو شرط أساس لإبقاء “حماس” مقيدة وضعيفة على المدى البعيد. وعلى رغم الضغوط التي تمارسها واشنطن، يبدو أن إسرائيل تصر على نهجها الحالي القصير الأمد، إذ تخطط لعملية كبيرة في مدينة رفح لن تقدم سوى مكاسب عسكرية هامشية بينما تؤدي إلى تفاقم الأزمة الإنسانية في غزة وتشويه سمعة إسرائيل أكثر. وبما أن القادة الإسرائيليين الحاليين غير آبهين على ما يبدو بمعالجة مسألة من سيحكم غزة، فإن أفضل ما يمكن أن يأمله المرء في الأشهر الستة المقبلة هو أن تخفف إسرائيل من شدة العنف في القطاع بينما تزيد من حجم المساعدات. لكن هذا النهج لن يرضي أياً من الإسرائيليين أو الفلسطينيين.
لقد أحرزت إسرائيل تقدماً ملحوظاً نحو هدفها المتمثل في تدمير “حماس”. في الواقع، يزعم الجيش الإسرائيلي أن عملياته أدت إلى تفكيك 18 كتيبة من أصل 24 تابعة للحركة، إضافة إلى ذلك، قتلت إسرائيل عدداً من كبار القادة العسكريين في الحركة، بمن في ذلك مروان عيسى، الذي ساعد في التخطيط لهجوم السابع من أكتوبر 2023، وكان ربما ثالث أهم قائد لـ”حماس” في غزة. كذلك، دمرت القوات الإسرائيلية جزءاً كبيراً من أنفاق “حماس”، ومواقعها المحصنة، ومستودعات الأسلحة.
ومن غير المرجح أن يتكرر ما حدث في السابع من أكتوبر 2023، ليس بسبب ضعف قوات “حماس” فحسب، بل أيضاً لأن إسرائيل استفاقت من حالة اللامبالاة والتهاون التي كانت تعيشها. قبل أكثر من عام من وقوع الهجوم، اعترضت الاستخبارات الإسرائيلية خطة “حماس” القتالية، وبعد ذلك رصدت مؤشرات محددة تدل على أن الخطة لا تزال جارية وقيد التنفيذ. ولو تصرفت إسرائيل بناءً على تلك المعلومات الاستخباراتية، من خلال مهاجمة المقاتلين أثناء تجمعهم، أو إرسال عدد قليل من طائرات الهليكوبتر إلى الحدود، أو تعزيز المواقع العسكرية في جنوب إسرائيل، لباءت خطة “حماس” بالفشل. لكن منذ السابع من أكتوبر 2023، دخلت إسرائيل في حالة تأهب مفرط إزاء التهديد، ولم يعد الخطر الآن يكمن في التهاون، بل في المبالغة في رد الفعل. ومن السهل تصور القوات الإسرائيلية تضرب بقوة وبسرعة عند أدنى معلومة استخباراتية تشير إلى هجوم قد تشنه “حماس” من دون أن تولي اهتماماً يذكر بالتحقق من صحة المعلومات أولاً.
وفي ما يتعلق بأعداء إسرائيل الآخرين، يبدو أن سياسة الردع فعالة. فـ”حزب الله” الذي يعتبر ألد أعداء إسرائيل ربما، يتحرك بحذر في اشتباكاته المتبادلة مع إسرائيل على طول الحدود اللبنانية، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى خوفه من أنه إذا لم يتوخ الحذر، فإن معاقله في بيروت قد يكون مصيرها في نهاية المطاف شبيهاً بمصير غزة. فعندما ضربت إسرائيل أهدافاً تابعة لـ”حزب الله” في سوريا وتسببت خلال هذه العملية في مقتل جنود سوريين، مثلما فعلت في مارس (آذار)، أعرب نظام بشار الأسد عن اعتراضه واستيائه، لكنه لم يتخذ أية إجراءات.
وحتى في الوقت الحالي، وبعد ستة أشهر من اندلاع الحرب، لا يزال الإسرائيليون على استعداد لتقديم التضحيات. في الواقع، لقي أكثر من 200 جندي إسرائيلي حتفهم خلال الحملة، وهو رقم مرتفع بالنسبة إلى بلد يتجنب عادة وقوع الخسائر البشرية. والحقيقة أن حجم هجوم السابع من أكتوبر 2023 وطبيعته المروعة، بما في ذلك أعمال العنف الجنسي الواسعة النطاق، ولد إرادة قوية للقتال. فمباشرة بعد الهجوم، استدعت إسرائيل نحو 300 ألف جندي احتياط. وعلى رغم أن كثيراً منهم قد أنهوا خدمتهم، فإن بعضهم بقي في حالة تعبئة، وتخطط إسرائيل لتمديد الخدمة في المستقبل حتى لو كان ذلك سيشكل عبئاً اقتصادياً وسيعطل حياة الإسرائيليين العاديين. وقد يكون “تدمير حماس” شعاراً استراتيجياً مبسطاً، وهو شعار مبهم، لكن شعبيته تبقى كبيرة.
على رغم تلك الإنجازات، فإن الحملة العسكرية الإسرائيلية متعثرة. لقد وجه مقتل عيسى ضربة إلى “حماس”، فإن القياديين البارزين، محمد ضيف ويحيى السنوار، ما زالا حرين طليقين. وعلى رغم أن بنية كتائب “حماس” قد تعرضت لضربة قوية وأن الحركة قد لا تكون قادرة على القتال في تشكيلات كبيرة، فإن سحقها ما زال هدفاً بعيد المنال. فـ”حماس” ما زالت تضم آلاف المقاتلين المسلحين. ويقاتل أعضاؤها الآن في مجموعات أصغر. في الواقع، تهاجم مجموعات مكونة من عشرات الأشخاص أو أقل القوات الإسرائيلية ثم يختبئون بين الأنقاض، ويتحركون سريعاً نحو الأنفاق المتبقية، أو يندمجون مع السكان المدنيين.
ولعل أكبر فشل منيت به إسرائيل يتعلق بالرهائن. على رغم إطلاق سراح 112 رهينة وإنقاذ عدة رهائن آخرين، ما زالت “حماس” تحتجز 130 رهينة. وقد أعلنت الحكومة الإسرائيلية أن 34 من الأسرى في عداد القتلى، ومن المحتمل أن يكون عدد أولئك الذين لقوا حتفهم أكبر بكثير. في المقابل، تزعم “حماس” أن العمليات العسكرية الإسرائيلية أسفرت عن مقتل أكثر من 70 رهينة. إن نفس الأنفاق التي يختبئ فيها مقاتلو “حماس” وقادتها تخفي أيضاً أسرى الحركة، ومن الصعب استهداف غزة بصورة مكثفة مثلما فعلت إسرائيل من دون قتل بعض منهم عن غير قصد. ولا يوجد حل بسيط لمعضلة الرهائن. فجميع الإسرائيليين تقريباً يؤيدون ضرب “حماس” بقوة، لكن البلاد منقسمة بين أولئك الذين هم على استعداد لقبول وقف إطلاق النار إلى أن يصبح من الممكن إعادة الرهائن، وأولئك، مثل نتنياهو، الذين يفضلون المخاطرة بحياة الرهائن عوضاً عن التراخي مع “حماس”.
وإذا استعادت “حماس” السيطرة فإنها ستحاول الاستحواذ على المساعدات من أجل إعادة بناء جزء من بنيتها التحتية في الأقل وتجنيد قوات عسكرية جديدة. ومن ثم فإن تدمير الحركة يستلزم أيضاً تدمير قوتها السياسية، بيد أن التغلب عليها يتطلب أكثر من مجرد الرغبة في إلحاق الهزيمة بها، بل وضع خطة مدروسة وقابلة للتطبيق. ولكن على رغم الضرر الذي لحق بالجانب العسكري لـ”حماس” فهي ما زالت تتمتع بشعبية كبيرة مقارنة بمنافسيها. في الواقع، يعتبر معظم الفلسطينيين أن هجوم السابع من أكتوبر 2023 مبرر، بمن في ذلك 71 في المئة من سكان غزة. وعلى رغم أن استطلاعات الرأي تشير إلى أن الفلسطينيين يشعرون بخيبة أمل من جميع الفصائل الحالية، تحظى “حماس” بشعبية تعادل أكثر من ضعف شعبية منافستها الرئيسة، السلطة الفلسطينية، التي تسيطر على الضفة الغربية.
ويذكر أن نجاحات إسرائيل التكتيكية ترافقت مع كلفة بشرية هائلة. لقد لقي أكثر من 32 ألف فلسطيني حتفهم في غزة، من بينهم عدد كبير من الأطفال. ونزح أكثر من 1.7 مليون شخص، فيما يواجه جزء كبير من السكان خطر المجاعة والمرض. وإضافة إلى بحار الدماء والدمار التي تسببت فيها الحرب في حد ذاتها، فقد فرضت إسرائيل تعقيدات عديدة تقيد وصول المساعدات إلى غزة، ولم تؤد الإدانات الدولية إلا إلى تخفيف تلك الإجراءات بوتيرة بطيئة. علاوة على ذلك، تتفاقم المشكلة داخل القطاع نفسه، حيث يجعل غياب الحكومة من الصعب توزيع المساعدات على من هم في أمس الحاجة إليها.
ونتيجة لذلك، تلطخت سمعة إسرائيل الدولية. بدأ المسؤولون الأوروبيون في انتقاد إسرائيل على نحو متزايد، مستشهدين بعدم اكتراثها الواضح للخسائر البشرية الناجمة عن حربها. كذلك، أظهرت استطلاعات الرأي أن الجمهور الأوروبي يتناقص دعمه لها أيضاً. كما تضاءل الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة، الحليف الأهم لإسرائيل. وبين الأميركيين بصورة عامة، انخفضت نسبة الآراء الإيجابية تجاه إسرائيل من 68 في المئة إلى 59 في المئة خلال العام الماضي. وكان هذا الخفض أكثر بروزاً بين الأميركيين الأصغر سناً، إذ تراجعت درجة التأييد بنسبة هائلة بلغت 26 نقطة مئوية، من 64 في المئة إلى 38 في المئة. إذاً، ربما تمهد حرب غزة الطريق أمام تحول جيلي في السياسة الخارجية الأميركية. في الواقع، يظهر الناخبون الديمقراطيون الآن تعاطفاً مع الفلسطينيين أكثر من تعاطفهم مع الإسرائيليين. والرئيس جو بايدن، الذي وقف بحزم في الأيام التي تلت السابع من أكتوبر 2023 إلى جانب إسرائيل، يزداد ميلاً الآن إلى انتقادها بشكل مطرد. وفي أوائل شهر مارس، رفضت إدارته استخدام حق النقض ضد قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي يدعو إلى وقف دائم لإطلاق النار في غزة.
وعلى رغم أن الحرب تحظى بشعبية كبيرة في إسرائيل، فإن حكومة نتنياهو واقعة في ورطة، ويخلف ضعفها السياسي عواقب وخيمة على الحرب ضد “حماس”. قبل السابع من أكتوبر 2023، شهدت إسرائيل بمعظمها احتجاجات مناهضة للحكومة، والمخاوف في شأن أجندة حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة، مثل خطتها الرامية إلى إضعاف القضاء الإسرائيلي، ما زالت قائمة. ويواجه نتنياهو نفسه اتهامات بالفساد حتى مع استمرار الحرب، وهو يسعى جاهداً إلى الحفاظ على تماسك ائتلافه. وتشير استطلاعات الرأي إلى أنه إذا أجريت انتخابات اليوم سيخسر أمام منافسه بيني غانتس من حزب الوحدة الوطنية، الذي يشارك حالياً في حكومة نتنياهو الحربية.
ومن أجل ضمان تشكيل ائتلاف سياسي موحد ومن ثم تجنب إجراء انتخابات في المدى القريب، رفض نتنياهو وقف إطلاق النار وحاول بشتى الوسائل إرضاء اليمين المتطرف، وعارض الدعوات التي تطالب بتجنيد الإسرائيليين الأكثر تديناً في الخدمة العسكرية، ووزع الأسلحة على المستوطنين المتطرفين في الضفة الغربية. وبطريقة موازية، فإن الوزراء المتطرفين مثل بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير لا يعارضون وقف إطلاق النار مع “حماس” فحسب، بل يظهرون معارضة شديدة ضد السلطة الفلسطينية أيضاً، وكراهيتهم لها يفسر سبب رفض نتنياهو الدعوات التي تطالب بإشراك السلطة الفلسطينية في حكم غزة بعد الحرب، وهو موقف يضعه في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة.
علاوة على ذلك، يرفض نتنياهو السيادة الفلسطينية بصورة عامة. في مؤتمر صحافي عقده في يناير (كانون الثاني)، انتقد دعوات الولايات المتحدة لإيجاد مسار نحو قيام دولة فلسطينية وتعهد بأن إسرائيل ستحتفظ بـ”السيطرة الأمنية” على الضفة الغربية، وبرر موقفه بالقول “مع كل أرض نخليها، نتعرض للإرهاب، إرهاب شديد ضدنا”. هذا الموقف يرضي اليمين المتطرف في إسرائيل، إلا أنه يؤدي إلى تنفير الدول العربية التي على رغم كراهيتها لـ”حماس” لا تزال في حاجة إلى الاستجابة إلى المناشدات الشعبية المطالبة بالحقوق الفلسطينية، إضافة إلى ذلك، هذا الموقف لا يروق لكثير من الزعماء الغربيين الذين أمضوا عقوداً من الزمن في الدعوة إلى حل الدولتين.
بعض المشكلات التي تواجهها إسرائيل في غزة لم يكن من الممكن تجنبها. ونظراً إلى حجم العنف الذي حدث يوم السابع من أكتوبر 2023، كان من المستحيل على أي زعيم إسرائيلي عدم اتخاذ قرار بشن غزو محدود وقصير الأمد في الأقل لغزة. وكان من المتوقع دائماً أن تكون الحملة في غزة مليئة بالتحديات. فبسبب الكثافة السكانية العالية، يعتبر القطاع مكاناً صعباً جداً لتنفيذ عمليات عسكرية مستدامة. ولا توجد طريقة سهلة لإبعاد المدنيين من طريق الأذى، كما أن استعداد “حماس” للاختباء بين المدنيين يجعل وقوع خسائر بشرية كبيرة في صفوف الفلسطينيين أمراً لا مفر منه.
مع ذلك، نشأت فرص ضائعة لم تستغلها تل أبيب. كان بإمكان إسرائيل أن تسمح بتدفق مزيد من المساعدات إلى غزة للتخفيف من بعض المعاناة الإنسانية ودرء الانتقادات الدولية بأنها تعاقب المدنيين. وكان من الممكن أن تتبنى وقف إطلاق النار (غير ذاك الذي دام سبعة أيام في نوفمبر “تشرين الثاني”) كجزء من عملية تبادل الرهائن، مما كان من شأنه أن يؤدي ربما إلى تحرير مزيد من الأسرى ويساعد البلاد على استعادة الدعم الدولي. وكان بوسعها أن تبقي عملياتها العسكرية في غزة أكثر دقة ومحدودية، من أجل تقليل الخسائر في صفوف المدنيين. لكن كل هذه الخطوات، بطبيعة الحال، كانت ستمنح “حماس” مجالاً أكبر لالتقاط الأنفاس، ولهذا السبب تجنبت إسرائيل اتخاذها. ولعل الأمر الأكثر أهمية، وإن كان أقل واقعية من الناحية السياسية، سواء قبل السابع من أكتوبر 2023 أو بعده، هو أن إسرائيل كان بوسعها أن تدعم قيادة فلسطينية بديلة تحل محل “حماس” في غزة، وأن تتعاون مع الدول العربية لضمان شرعية تلك القيادة ومع الشركاء الدوليين لتمويلها، بيد أن هذه الخطوة كانت لتكون مرفوضة على حد سواء من “حماس” ومن اليمين الإسرائيلي، وهو الائتلاف الذي قرر نتنياهو أنه لا يستطيع تجاهله.
وبغض النظر عن هذه التصورات الافتراضية البديلة، فمن المشكوك فيه أن النهج القاسي الذي تتبعه إسرائيل حالياً قادر على إحداث تغييرات كبيرة على أرض الواقع بطريقة قد تبدل المشهد العام في الأشهر المقبلة. في مارس وافقت حكومة نتنياهو على خطة لمهاجمة رفح آخر معقل لـ”حماس” في غزة حيث لجأ حتى الآن أكثر من مليون فلسطيني نازح. إذا مضت الحكومة بتنفيذ الخطة، فمن المفترض أن ينجح الجنود الإسرائيليون في القضاء على مزيد من المقاتلين وقد يتمكنون أخيراً من محاصرة السنوار أو الضيف أو كليهما. لكن ذلك ستكون له كلفة باهظة بالنسبة إلى المدنيين في غزة الذين لم يتبق لهم أي مكان يذهبون إليه والمعرضين لخطر المجاعة والمرض. وفي حين أن قتل الضيف والسنوار من شأنه أن يوفر بعض المتنفس للإسرائيليين (ومكاسب سياسية لنتنياهو)، فإن الفائدة التكتيكية ستكون محدودة إذ إن “حماس” تمتلك عدداً كبيراً من القادة يمكنهم أن يحلوا مكان أولئك الذين فقدتهم.
والأمر الأكثر أهمية هو أن اجتثاث “حماس” بصورة دائمة يتطلب وجود حكومة مختلفة في غزة، حكومة قادرة على الحكم لسنوات، تحل مكان الحركة وتتولى وظائفها المتمثلة في الحفاظ على القانون والنظام، والخدمات الاجتماعية، وغير ذلك من الضرورات. والفشل في تشكيل هذا النوع من الحكومة يعني أنه في حالة الانسحاب الإسرائيلي، فإن بضعة آلاف من المقاتلين (مع العلم أن “حماس” تضم حالياً عدداً يتجاوز بضعة آلاف بكثير) يمكن أن يعيدوا بسهولة سيطرة “حماس” لا سيما في ضوء الصدقية التي اكتسبتها الحركة في المعركة الأخيرة مع إسرائيل. ومن دون وجود بديل قوي للحركة في مختلف أنحاء غزة، فإنها ستحاول إعادة ترسيخ نفسها في المناطق التي تفتقر إلى حكم فعال. وقد واجهت إسرائيل لمحة عن هذه المشكلة بالفعل في مارس، عندما أعاد مقاتلو “حماس” تجميع صفوفهم في مستشفى الشفاء، وفي وقت سابق، كانت إسرائيل قد أخلت المستشفى لكن هذا الإجراء أثار استهجاناً واسع النطاق، مما اضطر القوات الإسرائيلية إلى مهاجمة المنشأة مرة أخرى.
ومع ذلك، سيكون من الصعب للغاية تشكيل حكومة جديدة في غزة. وفي حين تعتبر السلطة الفلسطينية هي الرهان الأفضل، وتظل الخيار المفضل لدى إدارة بايدن لإدارة غزة في مرحلة ما بعد الحرب، فإنها فاسدة وغير شرعية، وقد فقدت صدقيتها بسبب فشلها منذ فترة طويلة في الحصول على تنازلات ملموسة وذات معنى من إسرائيل. وحتى لو خضعت قيادة السلطة الفلسطينية للتنشيط، فإن “حماس” لن تقبل بوجودها في غزة، وبخاصة إذا سعت إلى إزاحة الحركة والحلول محلها عوضاً عن الاكتفاء بتوفير الخدمات الأساسية. وستحتاج أية حكومة تقودها السلطة الفلسطينية في غزة إلى مليارات الدولارات من الدعم الخارجي لتوطيد سيطرتها وإلى سنوات طويلة لترسيخ نفسها كسلطة مستقلة. لكن نتنياهو يرفض حتى هذا الاقتراح المتواضع.
والنتيجة إذاً هي حملة عسكرية تشهد تراجعاً في فعاليتها ومكاسبها من دون وجود خطة لما سيأتي بعد ذلك. وفي الوقت الحالي لا أحد يحكم قطاع غزة. إذا انسحبت القوات الإسرائيلية بصورة كبيرة أو بالكامل فمن الممكن أن تصبح غزة أقرب إلى دولة فاشلة، يسيطر مزيج من القادة المحليين وأمراء الحرب والعشائر على مناطقها المختلفة أو ببساطة لا توجد فيها أية جهة تتولى المسؤولية على الإطلاق وهو ما بدأ يحدث بالفعل في عدد من مناطق القطاع. وفي حين أن هذا السيناريو لا يزعزع التحالف اليميني المتطرف لأنه لا يقدم أي أمل في زيادة الحكم الذاتي الفلسطيني، فهو يفشل أيضاً في حل المشكلة الأساسية المتمثلة في من سيحكم غزة.
ومن ثم، فمن المحتمل أن تبقى القوات العسكرية الإسرائيلية في غزة لفترة طويلة قادمة. وحتى لو وافقت إسرائيل و”حماس” على وقف إطلاق النار كجزء من خطة لإطلاق سراح الرهائن، فمن المرجح ألا يدوم هذا الاتفاق إلى الأبد، إذ من المتوقع أن تشن القوات الإسرائيلية هجمات منتظمة لإبقاء “حماس” في حالة من عدم التوازن، لا سيما أن لا شيء آخر قد يمنع الحركة من تعزيز سيطرتها مجدداً، في الأقل في مناطق محددة، في ظل غياب حكومة بديلة. في مثل هذا السيناريو، الذي بدأ يحدث ربما، فإن الأمل الضئيل هو أن يتحول الصراع إلى مجرد حرب محدودة. وفي هذه الحالة ستتكبد القوات الإسرائيلية خسائر أقل بكثير، في حين سيشهد الفلسطينيون انخفاضاً في العنف في غزة وسيستفيدون من مزيد من المساعدات. ومع تراجع حدة الصراع وتحسن الوضع الإنساني، تعقد إسرائيل الأمل على أن تتحول أنظار العالم بعيداً من غزة. وفي تلك المرحلة، قد تتمكن البلاد من استئناف محادثات التطبيع مع السعودية وإصلاح علاقتها مع واشنطن.
وإذا تحقق هذا السيناريو، فإن الحياة اليومية للفلسطينيين ستتحول من مروعة إلى بائسة، وهو نوع من التحسن لكنه بالكاد يمثل حلاً مرضياً. وفي الوقت نفسه ستكتسب “حماس” فرصة لالتقاط الأنفاس مع تراجع العمليات الإسرائيلية، لكنها على رغم ذلك ستظل غير قادرة على العودة للسلطة في مواجهة الهجمات المنتظمة وحملات القصف. وسوف تظل غزة منطقة حرب، مما يؤخر أي جهود جدية لإعادة الإعمار.
إن المجتمع الإسرائيلي ككل، وليس نتنياهو وأنصاره اليمينيون فحسب، عازم على سحق “حماس” وسيكون من الصعب إرغام الحكومة على تغيير نهجها العقيم في التعامل مع غزة. ومع ذلك، يجب على إدارة بايدن أن تحاول إقناع إسرائيل بالذهاب إلى ما هو أبعد من مجرد إدارة الصراع، من خلال تهديدها بالحد من المساعدات العسكرية والدعم الدبلوماسي. ولكن بالنظر إلى السياسة الأميركية المشحونة والمعقدة في ما يتعلق بإسرائيل، فمن الصعب أن نتخيل أن إدارة بايدن ستزيد الضغط بصورة كبيرة على تل أبيب. وحتى لو حدث ذلك، فإن الضعف السياسي الذي يعانيه نتنياهو يجعل من غير المرجح أن يوافق على تنازلات من شأنها أن تعرض ائتلافه للخطر.
في الوقت الحالي، يبدو أن نتنياهو وبايدن منخرطان في لعبة انتظار، يأمل كل منهما فيها أن يترك الآخر منصبه، مما يجعل بلاده أكثر تعاوناً. ويعد قرار إدارة بايدن بالسماح بتمرير قرار وقف إطلاق النار في الأمم المتحدة بمثابة خطوة أولى إيجابية. ومن بين الخطوات التي اعتبرت مشجعة أيضاً تلميح بايدن إلى أن تقديم مزيد من المساعدات الأميركية لإسرائيل سيكون مشروطاً بتصحيح المسار في غزة، وهو تهديد صدر عنه خلال مكالمة هاتفية متوترة مع نتنياهو. في الواقع، من الضروري إيصال رسائل من هذا النوع، من خلال زيادة التصريحات العلنية التي يدلي بها الرئيس وغيره من كبار المسؤولين حول ضرورة وقف إطلاق النار كجزء من عملية تبادل الرهائن، إلى جانب الاستمرار في معارضة التوغل المخطط له في رفح.
غالباً ما تواجه الولايات المتحدة صعوبة في التأثير في الحلفاء الصغار عندما تكون مصالحها الحيوية على المحك. ولهذا السبب تجاهل القادة في أفغانستان والعراق في السنوات الماضية طلبات الولايات المتحدة في كثير من الأحيان حتى عندما نشرت آلاف القوات للمساعدة في حفظ السلام في البلدين. وعلى نحو مماثل، تتجاهل أوكرانيا في كثير من الأحيان النصائح العسكرية الأميركية، ويفكر القادة في تايوان في بعض الأحيان في إعلان الاستقلال على رغم الضغوط الأميركية لعدم القيام بذلك. وينطبق الشيء نفسه على إسرائيل، إذ ترى البلاد نفسها منخرطة في معركة وجودية في غزة، فيما يخوض رئيس وزرائها صراعاً من أجل البقاء السياسي، لذا فمن غير المرجح أن تستجيب بسهولة لمطالب واشنطن.
قد يكون نفوذ الولايات المتحدة محدوداً، إلا أنه ليس غائباً تماماً. وبعد ستة أشهر من الدعم الثابت والمستمر تقريباً، حان الوقت لكي تحث إدارة بايدن إسرائيل بحزم على التحرك في الاتجاه الصحيح الذي ينبغي أن تمضي فيه. والصراحة أمر واجب بين الحلفاء.