أنهت تداعيات الحرب التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة ولبنان عددا كبيرا من الثوابت والسرديات التي رسخت في أذهان الكثيرين في المنطقة العربية. ولا أعلم هل تعمدت قيادتها السياسية ذلك أم أن ظروف الحرب وتطوراتها وروافدها فرضت عليها هذه المسألة، أو أن طبيعة المرحلة لعبت دورا في التخلّي عن بعض المفاهيم.
وربما ما كنا نعتقد أنه من الثوابت ليس كذلك، وأن بعضنا وضعها في مخيلته وأسهم في الترويج لها بصور مختلفة باعتبارها من المحددات الرئيسية في التعامل مع إسرائيل، التي لم تهتم بتكذيبها وتركتها إلى حين يثبت عكسها من خلال مواقف عملية.
تخلصت إسرائيل مما تردد حول عدم قدرتها على خوض أكثر من حرب في آن واحد، وتفاخر رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو ذات مرة بأن جيشه يخوض سبعة حروب في وقت واحد، في إشارة إلى غزة والضفة الغربية ولبنان وسوريا والعراق واليمن وإيران، ما يشير إلى امتلاك إسرائيل إمكانيات نوعية وفائقة تمكنها من تعميق حروبها رأسيا وعدم الخوف من تمددها أفقيا.
وهي رسالة مهمة لمن راهنوا في البداية على خشية إسرائيل من توسيع نطاق حرب غزة، وأن فتح جبهات أخرى بالتوازي معها يردعها عن التمادي في تغولها العسكري، لكن ما حدث العكس، حيث حققت انتصارات في الجبهات التي حاربت عليها جميعا، وأن الخسائر التي لحقت بها ضئيلة مقارنة بما حققته من مكاسب. بالطبع الدعم الأميركي لعب دورا مهما، لكنه لم يتوقف أو ينقطع في حروبها السابقة أيضا.
هدم هذه النوعية من الثوابت لحق به هدم ما يتعلق بقصر نفسها العسكري والسياسي في الحروب، قياسا بالمعارك التي خاضتها ضد مصر والمقاومة بشقيها، في الأراضي الفلسطينية المحتلة ولبنان، لكن مضى على حرب غزة أكثر من عام ولم تتوقف، وتجاوزت الحرب المستمرة مع حزب الله كل الحروب السابقة معه زمنيا.
ولم تظهر أصوات قوية داخل إسرائيل تقول كفى لهذه الحرب الطويلة، بل صرخ المتطرفون اعتراضا على القبول بوقف إطلاق النار في لبنان، ولا يزال الأفق مفتوحا لمواصلتها، فالاتفاق المعلن مع حزب الله مليء بالثغرات التي تجعله هشا.
وبالتالي لا معنى للحديث مرة ثانية عن عدم قدرة إسرائيل على الدخول في حروب طويلة، أو أنها لا ترغب فيها أصلا، وإذا كانت هذه الاستنتاجات صحيحة، فإنها لم توضع في اختبار عملي كما هو حاصل في الوقت الراهن، والذي تريد فيه إسرائيل خلق صورة ذهنية مغايرة لدى خصومها وحلفائها، كأنها ترسم معالم طريق لما تريده في الفترة القادمة، فالحروب التي خاضتها على جبهات عديدة لوقت طويل، وبهذه القوة من النيران الكثيفة، يبدو أن جزءا من أهدافها محو أدبيات ووضع أخرى.
تجاهلت إسرائيل عملية استرداد العشرات من الأسرى لدى حركة حماس في غزة، وخاضت الحرب بطريقة لا تشير إلى حرص بالغ على عودة رعاياها، بل خرج ما يسمى بقانون هنيبعل من الأدراج الذي يبيح قتل إسرائيليين لمنع تحويلهم إلى ورقة ابتزاز في أيدي الخصوم، وأفشلت حكومة نتنياهو كل محاولات التفاوض التي ظهرت عليها علامات إيجابية للنجاح ولم تعبأ كثيرا بملف الأسرى، وتحدت أسرهم ولم ترضخ للمظاهرات التي طالبت بالإفراج عنهم من خلال صفقة وعبر تقديم تنازلات لحماس، وفقدت أكثر من نصفهم بسبب ضرباتها العسكرية العنيفة في القطاع، وتخلصت من مسلّمة قالت باستعدادها للتضحية مقابل عودة الأسرى وجنودها أو رفاتهم.
فإسرائيل التي تفاوضت وقتا طويلا لاسترداد الجندي السابق جلعاد شاليط من المقاومة وقبلت بالإفراج عن نحو ألف فلسطيني من سجونها لإتمام الصفقة، مختلفة عن تلك التي ضحت بموت الكثير من أسراها حتى الآن ولم تستجب لمطالب حماس، وهي رسالة تفقد قيمة الأسر والاحتجاز والخطف لدى من يقدمون عليه لاحقا، حيث أبدت إسرائيل استعدادا كبيرا للتضحية بمواطنيها والتخلي عن صيغة الصفقات.
اقرأ أيضا| وقف إطلاق النار.. وشرط صموده
أجهضت حكومة نتنياهو أيضا محاولات المعارضة للضغط عليها عن طريق المظاهرات في الداخل، كما أن مظاهرات الخارج أخفقت في حث الحكومات على التحرك، ولم يرتبك نتنياهو لخروج مئات الآلاف للمطالبة بتوقيع صفقة تفرج عن الأسرى، وجابه المعارضة السياسية وشريحة كبيرة من المواطنين والحشود التي تعاطفت مع أهالي الأسرى، ولم يقدم تنازلا لهم، ما أفقد ورقة الاحتجاجات جدواها، وقلل من أهميتها في المستقبل، بعد أن كانت واحدة من الأدوات المستخدمة لإجبار الحكومات على الاستجابة لمطالب معينة.
ولعل نجاح نتنياهو في تقويضها صب في صالحه، لأن الاحتجاجات كانت من أهم الأسلحة قبل نشوب الحرب للاحتجاج على سياساته وجره إلى المحاكمة بتهمة ارتكاب جرائم فساد، وتمثل نجاته من هذه المقصلة نقطة قوة له ولمن سيأتون بعده، إذ لم يعد الشارع محركا للأحداث، أو على الأقل تم تخفيض القيمة السياسية للمظاهرات.
من الثوابت التي هدمتها الحرب التي خاضتها إسرائيل على لبنان ما تردد حول قواعد الاشتباك مع حزب الله، والحفاظ عليها كان من الثوابت التي ترددت كثيرا في وسائل الإعلام العربية، فالضربات التي وجهت لقيادات الحزب ومعداته العسكرية القوية أنهت هذه الفكرة التي استمرت سنوات، وكانت كابحا لنشوب بعض الحروب أو أداة لعدم إطالة أمدها، وكسر هذه القاعدة سوف يمنح إسرائيل قدرة فائقة على أن تمد أذرعها في أيّ بقعة داخل لبنان.
كما تغيرت قواعد الاشتباك مع إيران بعد توجيه ضربات موجعة لها في العمق، ورد طهران نسبيا على إسرائيل في العمق أيضا، ما يعني أن الحرب الراهنة رفعت الغطاء عن التفاهمات الضمنية بين الطرفين، وكل شيء يمكن أن يتغير في الفترة المقبلة، مع تصميم إسرائيل على التخلص من أذرع إيران وتقويض قوتها النووية المحتملة.
بموجب هدم إسرائيل الكثير من السرديات التي عرفت عنها أكدت أنها قادرة على إرهاق خصومها، وأنه لا توجد ثوابت لدى الدول، وما قيل إنه لا يتغيّر في دولة ما يمكن أن تطرأ عليه تغيرات وربما تحولات مفصلية، عندما تقتضي المصلحة ذلك، وما فعله نتنياهو على مدار العام الماضي أنهى أساطير استمرت لعقود، بنيت عليها سياسات خاوية، ما يستلزم التعامل مع إسرائيل جديدة، لا تعرف الثوابت، وقادرة على تبديل جلدها بما يتواءم مع تحقيق مصالحها في المنطقة.
والتحدي الذي يواجه القوى الإقليمية الرئيسية هو أن تختار الطريقة المناسبة التي تتعامل بها مع إسرائيل، لأن المنعطف الذي تمر به المنطقة الآن يحتاج إلى وضوح ونضج وحكمة كبيرة، كي لا تتمكن إسرائيل من فرض كلمتها بمفردها.