ما زالت دوائر الحجر الذي ألقاه دونالد ترامب في بِركة الشرق الأوسط تتسع وتتفاعل في العواصم، همساً مرة وصخباً مرات بعد أن أدخل الجميع في حالة من الصدمة ووقف يتفرج على الطرف الآخر للمحيط، دونالد ترامب لم يأخذه الأميركيون على محمل الجد حين دعاهم لشرب المنظفات في مواجهة «كورونا» لكننا نحن العرب مضطرون للتعاطي بذلك الفزع الكبير، ليس سوى لأنه الرئيس القادر على تحريك الأساطيل وحاملات الطائرات، ولأن لبلاده تاريخا من إزالة أنظمة وابتزاز أنظمة وملاحقات وحصار أنظمة، وهذه واحدة من سخريات التاريخ والتركيب المعقد للبشر.
الطامحون للسلطة عادة ما يكونون يحملون جينات شريرة، هي حقيقة جسدتها النتائج المذهلة والدامية لصراعات البشر والمذابح. فالأسوياء لا يتوقون لأن يكونوا مسؤولين عن غيرهم ولا يجدون متعة في التحكم بالبشر ولا يجدون سعادتهم بتقرير مصير غيرهم وترامب واحد من تلك النماذج، هذا لا يهم في الدول الفقيرة والبدائية لأن نتائج الشر تظل محصورة في محليات صغيرة وضد شعوبها، لكن عندما يتعلق الأمر بدولة كبرى تملك إمكانيات هائلة يكون الأمر مختلفاً ومكلفاً للبشرية.
لقد أدخل ترامب المنطقة العربية في حالة من الذعر بإعلانه خطة الولايات المتحدة لتهجير الفلسطينيين إلى مصر والأردن. وهذه الضربة الكبيرة كان يقف خلفها بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الأكثر دهاء في تاريخ اسرائيل الذي يدير السياسة باحتراف كبير. هذه المرة، دفع بالرئيس الدمية للذهاب للحد الأقصى في المشروع الإسرائيلي وألقى الأزمة بعد ما ارتكب من فظائع في حِجر العرب، هكذا وبكل بساطة لم تعد المشكلة إسرائيلية ولم يعد الإسرائيلي مطالباً بإيجاد حل.
اقرأ أيضا.. لماذا يصر نتنياهو على تزييف الحقائق؟
«إذا لا يتوافق معكم مشروع التهجير أوجدوا حلاً عربياً» كيف تمكن ببراعة من إرغام العرب على البحث عن حلول لمشكلة إسرائيلية أرّقت الأمن الإسرائيلي لعقود؟. تلك هي اللعبة الجديدة والتي يندفع العرب لإيجاد حل يقرر الإسرائيلي عنوانه، فمن يتذكر أو يجرؤ في ظل مناخات التخويف التي صنعها ترامب على الحديث بأن الحل هو إقامة دولة فلسطينية؟. فقد فرض البرنامج وسقف الحل المطلوب بإنهاء حكم «حماس» وإعمار غزة.
يحاول العرب منع التهجير بإقناع الولايات المتحدة بقدرتهم على الإعمار مع وجود الغزيين …! أمعقول هذا؟ قد يندهش ترامب هذا إذا وافق على بقاء الغزيين أو إذا وافق نتنياهو سيقول: لنرَ قدرتكم على القيام بذلك، فيتكفل العرب تحت خوف التهجير بإعمار غزة من أموالهم، اسرائيل تدمر والعرب يدفعون، هكذا درجت العادة في غزة دون أن يلزم أحد اسرائيل بدفع أي شيء. وهذا ما شجعها على الإفراط في الدمار ولو كانت ستدفع أو تساهم في الإعمار لحسبت ألف حساب أو لتواضعت في سحق مباني ومدن القطاع.
اللعبة هنا إذا ما توقف مشروع التهجير هي العودة لتوجهات نتنياهو المبكرة بتحميل العرب نفقات بناء غزة، وهو ما أشار له في الأسابيع الأولى للحرب لترد دول الخليج آنذاك ببيان غاضب بأنها لن تدفع نظير ما يقوم به من تدمير قبل إقامة دولة فلسطينية .. والآن مع حالة الذعر التي نشرها ترامب يهبط السقف إلى حيث أراد ذئب السياسة الإسرائيلي مبكراً، وهو الفخ الذي لم يسلم منه مفكر بوزن عزمي بشارة الذي دعا العرب هذا الأسبوع للإسراع بالبدء بعملية إعمار القطاع.
الحقيقة أن الإسرائيلي قد هيأ هذا المناخ وحدد مستوى السقف السياسي الذي يسمح للأطراف الغرق فيه، فلا حديث سياسيا ولا دولة فلسطينية ولا محاسبة للإسرائيلي بعد هذه الإبادة، وأقصى الطموح هو أن يوافق الثنائي ترامب ــ نتنياهو للعرب أن يدفعوا ليقوموا بعملية الإعمار …
والحقيقة أن هذه هي الخطة الوحيدة التي يمكن أن تقطع الطريق على خطط التهجير ولا يلام العرب على ذلك بل إن مواقفهم المتماسكة تجاه خطة التهجير مدعاة للاحترام، ولكن الملاحظة هنا على كيفية صناعة العالم الغربي لمناخات السياسة واستدراج العرب إلى المساحة التي يريد.
هذا هو الفرق بين الغرب وبيننا نحن العرب، ولا خيارات كثيرة في ظل تقسيم العالم إلى متقدم يحتكر القوة وآخر متأخر أو متخلف يفتقر لعوامل القوة وتوازناتها التي تتكفل بهندسة العلاقات التي ليست سوى انعكاس لتلك التوازنات، وبالتالي إرادات الفعل السياسي والأطراف التي تتحدث بفوقية والأخرى الضعيفة التي تدور حول نفسها لحظة إلقاء تصريح يدخلها في حالة استنفار.
لماذا يهبط الحوار السياسي مع الولايات المتحدة وتتم تنحية الحقوق السياسية للفلسطينيين بعد حرب طاحنة بهذا المستوى لصالح الإغاثة والإعمار؟ لماذا يزداد تغول اسرائيل وتصبح المبادرة العربية شيئا من الماضي والحديث العربي عن دولة فلسطينية أيضا شيئا من الماضي؟ وانسحاب اسرائيل من أراضٍ عربية شيئاً من الماضي؟ بل ويهبط السقف أكثر مع الزمن ويعلو السقف الإسرائيلي في كل مرة أكثر حد القضاء على التطلعات الفلسطينية وتهديد الأمن القومي العربي، وعلى العرب الاستجابة والدخول في المسارات المعوجة التي يقررها الإسرائيلي ويحدد سقوفها بل يحولنا في لحظة عربدة سياسية إلى منفذين لهذه المشاريع … كيف تحول إعمار غزة بجهود العرب وأموال العرب وثروات العرب مطلباً عربياً وأن اسرائيل تغسل يديها من هذا؟ سؤال اللحظة العابثة ..!.