بعد غزة، ما هي الأهداف الحقيقية لإيران الآن؟ ما رؤيتها لعمق التحوّلات؟ كيف تخطّط للخروج منتصرة؟
يقول الأستاذ المؤرخ الكبير كوتكين: “وأنت تخوض الحرب، عليك أن تفكّر كيف يمكن أن تربح في السلام”. لكن ببساطة، تراهن إيران ويراهن بنيامين نتنياهو على العكس.
فبهدف تعظيم موقفها التفاوضي الدولي وبخاصة مع الولايات المتحدة، طالما راهنت إيران على إبقاء الصراع الإقليمي ملتهباً على نار تضبطها هي. بل تشير التسريبات عن مفاوضات الشق الإقليمي للاتفاق النووي، إلى عرض إيراني لتقسيم الأدوار الاستراتيجية، يبقي العرب بعيداً، بحجة “الإرهاب والتطرّف”.
من جهتها، وجدت إيران في الإقليم المزدحم بالأصوليات، نادياً من الشركاء الموضوعيين، يمتد من نتنياهو إلى فلاديمير بوتين وبشار الأسد و”حزب الله” وأخواته، يتخادمون موضوعياً، ويعتاشون على تأبيد رقصةِ موتٍ شرق أوسطية بامتياز…
أزعم، أنّه رغم نجاحاتها الكبيرة في الماضي، تخوض إيران، بعد غزة السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، معركة فاصلة. لا تخوض إيران المعركة دفاعاً عن الوطن الإيراني، ولا عن رخاء شعبها، ولا في سبيل فلسطين، بل دفاعاً عن استفرادها بما تبقّى من جسد جبهة الصمود، على أمل أن تتعب الولايات المتحدة او تتبدّل أحوالها، وتعود لتفويض إيران إقليمياً.
نعم، إني أزعم انّ إيران، رغم مواطن قوتها الكامنة إلى الآن، بدأت تفقد عناصر قوتها منذ سنوات عدة، لتتراجع نحو مواقع الدفاع!.
الذرائع هي أول عناصر القوة التي تسقط! والذرائع جوهرية في حشد العصبيات وتكوين الانتحاريين. فبعد مقتل قاسم سليماني، بدأت نهاية لعبة الإنكار، وبعد غزة تصبح ذريعة “فلسطين” ذريعة عارية.
وتسقط ثانياً، مقومات التفويض والتغاضي الدولي عن إيران. فمنذ إلغاء الاتفاق النووي، وحتى بعد قدوم جو بايدن، تتقطع خطوط التفاوض مع الولايات المتحدة، لتصل بعد غزة حدّ الانكسار. بعد غزة لن تكون، لا إسرائيل ولا أميركا، لسكين “حزب الله” في رقبة الإقليم، بل صارت أهمية سوريا واضحة اكثر من أي وقت كمنصّة لتهديدات الحزب لمجمل الإقليم.
ثالثاً، تتداعى مقومات المشروع الإيراني في دول محور الصمود ذاتها. فقد بلغ التفسخ في لبنان وسوريا والعراق أوجه، كما تجلّى بدءاً من انتفاضة 2019 في لبنان، ثم انتفاضة العراق وإحراق قنصلية إيران في النجف. أما بعد غزة، فسيكون الحبل جراراً، بعد أن أصبح الخراب والمأزق التنموي المستحكم وانسداد الأفق امام الشباب، سمة طاغية لفشل مشروع إيران.
رابعاً، تسقط استراتيجية إيران بإبقاء الحرب منخفضة اللهب. كانت إيران تستمتع بلعبة “توم وجيري” مع إسرائيل وأميركا، طالما أنّ اللهب مشتعل ومضبوط. لكن، بعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، لم تعد المعادلة ممكنة، ليبدأ مسلسل طويل من اغتيالات قادة الحرس الثوري وضرب مواقعه على طول الإقليم وعرضه.
خامساً، تتراجع المقومات الدولية لدور إيران الإقليمي. فبعد أن كانت روسيا مصدّ الرياح، والغطاء الاستراتيجي الدولي لإيران، تفقد روسيا روافعها الإقليمية بعد انزلاقها في غزو أوكرانيا، وفشل عظمتها العسكرية في اكتساح أوكرانيا بحرب صاعقة. وليس أدلّ إلى ذلك، غياب روسيا التام عن الإقليم، لا من قريب ولا بعيد، في عزّ الأزمة.
يكمن العامل السادس في تداعي استفراد القوة الإيرانية بالإقليم، نتيجة بزوغ بديل إقليمي لنموذجها في محور المقاومة. إذ يصعد بوضوح نموذج بديل، تتصدّره بعض الدول العربية وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، ويستند إلى الأولوية المطلقة للتنمية والتَحَضُر، بديلاً ملموساً وحياً، لثقافة الموت والانتحار. وإذ يعود العرب إلى خارطة الإقليم، كقطب ندي وشريك في صياغة الحلول والسلام، تخشى إيران ان تبقى يتيمة عن ترتيبات ما بعد غزة.
وبدأ من تطوير موقف المملكة نحو الحل في اليمن، إلى إعادة صياغة تحالفها مع الولايات المتحدة، وصولاً إلى مواقف المملكة ومصر والأردن في درء الترانسفير، يصبح الدور العربي عقدة الحل والربط في إنهاء عملية القتل الممنهجة في غزة، وتعافي السلطة الفلسطينية، وإعادة صياغة تحالفات الإقليم من بعدها.
في الفترة السابقة، تمكنت إيران، بشطارة، من تلافي التشققات الزاحفة في قوتها، لتساوم تارةً، وتدير خدها مرّات أخرى. لكن بعد انفجار السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، صار كل شيء على المحك! فإما ان تفقد إيران أوراقها الإستراتيجية، أو أن تعمل على إفشال البدائل العربية لدورها، مستفيدةً من تعثر بايدن وحماقة نتنياهو، ومن عناصر قوة أذرعها.
رغم كل ما قلناه عن تراجع عناصر قوة إيران، يبقى رهانها رهاناً عقلانياً، يدعمه تاريخ علاقات إيران بأميركا وإسرائيل. فطوال عقود راهنت إيران على نزق وعبثية السياسة الأميركية تجاه الإقليم من جهة، وعلى الطبيعة المركانتيلية للعقل الاستراتيجي الإسرائيلي من جهة أخرى.
ومنذ انسحاب المدمّرة نيوجيرسي من بيروت، لجأت الولايات المتحدة للصفقات مع بلطجية الإقليم، لتضبط الصراع، بحيث لا تتورط هي في الإقليم، “فلا يموت الديب ولا يفنى الغنم “. وإيران تبني رهانها التاريخي على ذلك.
فما هي الرهانات العملية لإيران للاحتفاظ بأوراقها؟
في غزة تراهن إيران على إعادة عقارب الساعة لما قبل السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، بل تراهن على إفشال محاولات تعزيز الدور العربي في صياغة تعافي الوضع في غزة. وفي لبنان، تراهن إيران على استعادة “حالة اللاحرب واللاسلم” في الجنوب، لينتقل الجنوب من جديد إلى حرب الأنفاق. وفي اليمن، تراهن على تقييد هوامش ضربات التحالف الدولي ضدّ القرصنة الحوثية، عبر إطالة زمن مفاوضات السلام في مسقط، في وقت تراهن فيه على رخاوة الموقف الأميركي من الحوثيين وردّهم الرمزي على قرصنتهم.
أما في سوريا، فتقول مصادر وكالة “رويترز”، إنّه رغم ابتعاد عناصر “فيلق القدس” عن الأنظار فإنّهم “لن يتخلّوا عن سوريا، وصاروا يفوضون عملياتهم، جزئياً، لحزب الله”. بل إنّهم يجنّدون المقاتلين من أفغانستان وباكستان للانتشار في سوريا، تكراراً لتجربة إيران في مساعدة نظام الأسد المحاصر.
تعتمد إيران بشكل متزايد على “حزب الله”، لكن هذا الاعتماد يجعل الحزب مكشوفاً تماماً للضربات الإسرائيلية. فقد أصبح واضحاً أنّ إسرائيل أسقطت التفاهمات غير المعلنة مع الحزب، وانتقلت لتصفية مباشرة وواسعة لعناصره وبنيته.
انّها معركة مع الزمن. فعوامل الضعف الإستراتيجية الإيرانية، هي عوامل لا تزال قيد النمو، لكن تأثيرها سيكون حتمياً وزاحفاً. وفي انتظار ذلك، تعمل إيران بشكل حثيث على إفشال الدور العربي وتعظيم قدرات أذرعها.
وفي حين تحاول إيران إبقاء قواعد اللعبة على ما كانت عليه لعقود، تتبدّل قواعد اللعبة موضوعياً لتصبح معركة إيران مع الزمن. فـ”لكل زمان دولة ورجال”.