للمرة الثالثة منذ توليها مهامها، خرجت علينا القائمة بأعمال رئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا ستيفاني خوري من على منبر مجلس الأمن الدولي لتكرر ما سبقها إليه المبعوثون الأمميون الذين تداولوا على المنصب قبل أن يؤول إليها، من سرد ما يستجد من الأحداث والمواقف في الساحة الليبية، والتعليق عليها بتلك الرتابة المملة التي تستبعد الحل وتحاول تبرير الفشل الأممي والدولي، فيما تنجح بعض الأطراف الداخلية في تحقيق أهدافها ببناء ممالكها وتكريس سلطاتها وتطوير دكتاتورياتها الناشئة.
شددت خوري على ضرورة “اتخاذ خطوات إضافية بعد حل أزمة المصرف المركزي، وتعيين مجلس إدارة له، لأن هذا من شأنه إعادة الثقة في هذه المؤسسة”، لكنها لم تتطرق إلى الصراعات التي تدور رحاها من وراء الستار حول تركيبة ذلك المجلس، حيث سعى كل طرف إلى بسط نفوذه على المؤسسة من أجل خدمة مصالحه وتحقيق أهدافه في تحويل ثروة الشعب إلى ريع خاص به وبالمقربين منه والمحسوبين عليه.
قالت خوري إن “هذه الأحداث تذكرنا بمدى أهمية استقلالية مؤسسات الدولة الليبية، وضمان عدم استغلال موارد الدولة لتحقيق مكاسب سياسية، وبالخطر الذي تفرضه الإجراءات الأحادية، وحاجة كل الأطراف إلى احترام صلاحياتها، والعمل معا لإيجاد حل بروح توافقية”، وهي تعلم جيدا أن لا أحد من القوى الداخلية أو الخارجية الفاعلة يتمنى أن تحقق مؤسسات الدولة الليبية استقلاليتها وأن تحافظ عليها. بالعكس، ما يحدث أن كل طرف يحاول أن يجيّرها لخدمة مصالحه، وقد أثبتت عواصم إقليمية ودولية عدة أن ما يهمها هو كيف تستفيد من ثروة الليبيين الموجودة تحت الأرض وفوقها، وكيف تجعل من البلاد ساحة لمشاريعها التوسعية في سياق الحسابات الإستراتيجية والصراعات الجيوسياسية.
اعتبرت خوري أن استمرار الإجراءات أحادية الجانب لن يؤدي إلا إلى تقويض سيادة ليبيا، وإغراق البلاد في المزيد من الأزمات، وتشتيت الانتباه عن المهمة المطروحة: ألا وهي تمهيد السبيل لحل سياسي شامل يعالج قضايا مثل الانقسام الحالي داخل مؤسسات الدولة، والحاجة إلى حكومة موحدة، واستعادة الشرعية الديمقراطية عن طريق الانتخابات.
بالمقابل، لم تكشف لنا عن الأطراف التي تعرقل محاولات الحل، ولم تعرب عن إدانة واضحة لمن يحولون دون تشكيل الحكومة الموحدة، ولمن يتآمرون بشكل علني ومفضوح من أجل قطع الطريق أمام أي محاولة لتنظيم الانتخابات، فقط ليحافظوا على المناصب التي وضعوا أيديهم عليها بالعمولات والرشى وتنفيذ أجندات القوى الخارجية وخدمة مصالحهم والقبول بالتبعية للأجنبي كأداة للبقاء في سدة الحكم حيث مقاليد السلطة ومفاتيح الثروة.
قالت خوري إن الليبيين عبّروا عن رغبتهم في إجراء عملية سياسية لمعالجة القضايا الأساسية الأطول أمدا، والتي لا تزال عالقة دون حل حتى الآن، كما أوضحوا رغبتهم في عملية سياسية لمعالجة القضايا الأساسية ومنها طبيعة الدولة الليبية وبنيتها، والتوزيع العادل للثروات على جميع الليبيين. وهذا يستلزم حوارا شاملا.
ويبدو أن خوري أرادت أن تعلن من خلال حديثها عن الحوار الشامل عن مشروع مبادرة جديدة، قد تكون الحل المناسب لتمديد مهمتها عاما آخر على الأقل، عساها تحقق ما فشل فيه المبعوث الأممي المستقيل عبدالله باتيلي الذي يكون في نوفمبر القادم قد مر عام على مبادرته بجمع الفرقاء الخمسة الكبار وهم رؤساء المجلس الرئاسي ومجلسي النواب والدولة وحكومة الوحدة وقائد الجيش، والتي يمكن وصفها بالمبادرة الساذجة لاستحالة تطبيقها على الأرض بسبب حدة الصراع بين تلك الأطراف، واختلافها على كل شيء، ما عدا ما يجمعها فعلا وهو الرغبة في تعطيل الحل بما يطيل من أمد بقائها في الحكم واستفادتها من الامتيازات.
ولا شك أن خوري مدركة تمام الإدراك أن حالة الانقسام التي تعرفها البلاد حاليا، لها ما تستند عليه ثقافيا واجتماعيا وتاريخيا ونفسيا، حيث إن الجغرافيا الحالية لم تتحد فعليا إلا في العام 1963، والدولة الوطنية لم تتحقق إلا بقرار من الأمم المتحدة، وبتضحيات الآباء المؤسسين الذين أقاموا البناء الاتحادي في العام 1951 وفي مقدمتهم الملك إدريس السنوسي، وقد يكون من فضائل نظام معمر القذافي أنه حافظ على وحدة الدولة والمجتمع لمدة 42 عاما، إلى أن لعب المجتمع الدولي في العام 2011 على التناقضات القبلية والمناطقية والجهوية والثقافية والعقائدية من أجل الإسراع بإطاحة النظام دون أن تكون له دراية بما يعتمل في العمق وليس فقط في السطح. ومن المؤشرات التي يمكن قراءتها بالكثير من الجرأة والجدية، أن ديسمبر القادم سيشهد مرور 90 عاما على إطلاق اسم ليبيا على تلك الجغرافيا المتكونة من طرابلس وبرقة وفزان، وقد كان هدف الإيطاليين من المبادرة هو تجميع مستعمراتها الثلاث في كيان واحد ليس إلا.
وإذا كان الليبيون يرغبون بالفعل في معالجة طبيعة الدولة وبنيتها، فإن أول ما يمكن التأكيد عليه هو التوافق حول دستور قريب من روح دستور 1951 على الأقل من حيث تكريس النظام الفيدرالي، وترسيخ منظومة الحكم المحلي، وضمان الحريات العامة والخاصة، بالإضافة إلى توفير الآلية المناسبة لتأمين التوزيع العادل للثروة.
وبحسب خوري، لا يزال القرار الذي اتخذه مجلس النواب في وقت سابق بإلغاء ولاية حكومة الوحدة الوطنية والمجلس الرئاسي باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة يشكل مصدرا للتوتر، بينما الواقع يقول إن ذلك القرار لا يؤثر على الواقع، ولا يغيّر من المشهد، نظرا إلى وجود قطيعة حقيقية بين طرابلس وبنغازي، حيث وكأننا أمام دولتين كلّ منهما ترفض الاعتراف بالأخرى.
إقرأ أيضا : دلالات زيارة بوتين لإيران.. وسر السيارة السوداء
وبالنسبة إلى ضرورة التوصل إلى توافق في الآراء بشأن المضي قدما في المصالحة الوطنية، فإنه كان على خوري أن تفضح الأطراف التي تحول دون تحقيق هذا الهدف، وكانت وراء تأجيل مؤتمر سرت، ثم مؤتمر أديس أبابا، وقبل ذلك كانت وراء تأجيل انتخابات ديسمبر 2021، فقط لأن بعض الشخصيات التي ترشحت للسباق الرئاسي لم تكن تروق لهذا الطرف الدولي أو ذاك.
رأت خوري في إحاطتها أن الوقت حان لتبديد التصور بأن الأمم المتحدة والمجتمع الدولي يعملان فقط على إدارة الأزمة في ليبيا وليس معالجتها، وأكدت أنها تعتزم البناء على الإنجازات الإيجابية الأخيرة والدفع بالعملية السياسية الشاملة في الأسابيع المقبلة بهدف كسر الجمود السياسي ومعالجة أسباب الصراع طويلة الأمد والمضي قدما نحو الانتخابات الوطنية.
قد تكون نوايا خوري صادقة بالفعل، ولكن عليها أن تتأمل ما يكون في الإقليم، فقد تقتنع أن الأمم المتحدة قادرة على أن تكون جزءا من المشكلة ولكن من الصعب أن تكون جزءا من الحل. وفي ظل ما يدور حاليا في المنطقة، فإن الأمم المتحدة غير قادرة على تفعيل القانون الدولي وتحصين سيادة الدول، ولا على حماية المدنيين في غزة والضفة الغربية ولبنان والسودان وسوريا. وعندما تبدو من وراء الأكمة مصالح دول بعينها تعتبر نفسها فوق القانون وفوق شرعة الأمم.
والفرقاء الليبيون تعلموا منذ العام 2011 كيف يلاعبون المجتمع الدولي، وكيف يسخرون منه ومن قراراته، وكيف يستعملونه في خدمة مصالحهم دون غيرها، وفوق ذلك قاموا بتشكيل دويلات داخل الدولة، واتجهوا للعب على حبل التوازنات الإستراتيجية والجيوسياسية بعد اتفاق غير معلن بينهم على إبقاء الوضع على ما هو عليه.
ولذلك أستطيع أن أؤكد من الآن لخوري أن الحل السياسي لا يزال بعيدا، وأن الأقرب منه هو العمل على تدشين حوار وطني بخصوص طبيعة النظام السياسي الذي يمكن أن يحافظ على مصالح من وصفتهم ستيفاني الأولى بديناصورات السياسة قبل أن يصبح لهم أبناء وربما أحفاد يسعون لوراثتهم فوق منصة الحكم والامتيازات.