أين «هدنة المحشورين» من شروط المنتصرين؟
تدور المواجهة بين طرفين يرفضان "حل الدولتين"، ويريد كل منهما فلسطين من البحر إلى النهر، حركة "حماس" التي تراهن، من بين أمور عدة، على الثمن الكبير لموضوع الرهائن والحساسية الإسرائيلية حياله.
أعادت حرب غزة الصراع العربي – الإسرائيلي إلى بداياته، بعدما قادت أميركا عملية سلام وأوحت أنه صار في نهاياته. وزيارة الرئيس جو بايدن إلى إسرائيل مع حاملتي الطائرات “جيرالد فورد” و”أيزنهاور” كانت بداية زيارات متكررة للمسؤولين الكبار في الإدارة سياسياً وعسكرياً وأمنياً.
لكن هذه الزيارات في رأي داليا داسا وسنام وكيل في مقالة نشرتها “فورين أفيرز”، “تكشف عن ضعف الدبلوماسية وتلاشي الفاعلية العسكرية الأميركية، وتوقُّع أن تحقق أميركا بسبب علاقاتها التي لا مثيل لها بإسرائيل، صفقة تنهي الصراع العربي – الإسرائيلي معزول عن الواقع والحقائق في الشرق الأوسط اليوم”.
والكل يبدو محشوراً يبحث عن صيغة لوقف النار في حرب غزة، لكن الصيغة صعبة، وليس صحيحاً قول وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن صاحب الرقم الأكبر في جولاته الإقليمية منذ حرب غزة إن “حماس هي العقبة الوحيدة أمام وقف النار”، والصحيح أن ما يعرقل الصيغة هو استحالة مد جسر بين موقفين متناقضين تماماً. هكذا كان الأمر عام 1948، وهكذا هو اليوم، وسوف يبقى ولو حدث “حل الدولتين”.
في البدايات كان الموقف العربي الرسمي حتى عام 1967 هو تحرير فلسطين، ويروي المؤرخ توم سيغف مؤلف “دولة بأي ثمن: حياة ديفيد بن غوريون” أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل قال إنه لن يكون هناك سلام بين اليهود والعرب الذين يريد كل منهم الأرض نفسها ويتصرف كأمة. ولا حل لهذه المسألة، فهناك هوة بيننا، ولا شيء يمكن أن يملأ هذه الهوة”، والممكن هو “إدارة الصراع” أو “احتواؤه” وليس حله.
واليوم تدور المواجهة بين طرفين يرفضان “حل الدولتين”، ويريد كل منهما فلسطين من البحر إلى النهر، حركة “حماس” التي تراهن، من بين أمور عدة، على الثمن الكبير لموضوع الرهائن والحساسية الإسرائيلية حياله، تطلب في الصيغة شروط المنتصر. فهي ترى نفسها منتصرة على رغم دمار غزة، أو أقله تتقبل المعادلة التي فحواها غزة خسرت وفلسطين ربحت. وحكومة نتنياهو تطلب شروط المنتصر، وإن لم تحقق أهدافها المعلنة حين بدأت حرب غزة بعد عملية “طوفان الأقصى” على يد “حماس” في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. ولا أميركا ولا مصر ولا قطر ولا أية دولة تقوم بوساطة تستطيع إيجاد صيغة ترضي طرفين يريد كل منهما أن يبدو منتصراً.
ولا يبدل في الأمر كل الزحام لترتيب نوع من هدنة المحشورين، وأحدثها اقتراح الرئيس جو بايدن الذي هو أصلاً اقتراح إسرائيلي، فبايدن محشور بالوقت الانتخابي في السباق الصعب مع دونالد ترمب مرة أخرى، ويريد وقفاً للنار والحرب في غزة يتبعه وقف نار وصيغة تسوية على جبهة الجنوب اللبناني.
وحكومة نتنياهو محشورة بموضوع ضاغط داخلياً هو ضرورة إعادة المخطوفين وعودة المهجرين لمستوطناتهم في الجليل وغلاف غزة، وبموضوع ضاغط خارجياً هو خسارة كثير في الأمم المتحدة وأمام محكمة العدل الدولية وفي الجامعات الأميركية والأوروبية كما في الرأي العام في أوروبا وآسيا وأفريقيا. و”حماس” محشورة بالحاجة إلى وقف النار الدائم والحفاظ على ما بقي من قوتها العسكرية وإعادة أهالي غزة المهجرين إلى ما بقي لهم ثم إعادة الإعمار.
ومصر محشورة باستمرار الحرب في غزة واحتمال مضاعفاتها. وقطر محشورة بالرغبة في النجاح بدور الوسيط القادر على إنجاز ما يلتزمه. وليس واضحاً إن كانت إيران محشورة أو لا ما دامت تربح بالنقاط من دون أن تدخل مباشرة في الحرب، مكتفية بما تقوم به الميليشيات المرتبطة بالحرس الثوري في كل من العراق وسوريا ولبنان واليمن وغزة. لكن إيجاد صيغة ترضي طرفين متحاربين يريد كل منهما فيها شروط المنتصر هو مهمة مستحيلة.
وما تأكد في الميدان على مدى تسعة أشهر حتى الآن هو أن “إزالة حماس بالقوة العسكرية مهمة صعبة، إن لم تكُن مستحيلة”، بحسب أودري كيرث كرونين مديرة معهد الاستراتيجية والتكنولوجيا في مؤسسة “كارنيغي”، والسبب هو أن “التكنولوجيا ضيقت الهوة بين الدول والمنظمات، وسمحت للقوى “غير الدولتية” بأن تتصرف بطرق تسخر من عمليات الدول”. والحصيلة الأولى لحرب لا متماثلة مثل حرب غزة هي أن القوات الإسرائيلية “لعبت في أيدي ’حماس‘ بمجرد الغزو البري” الذي دمرت أفعاله الوحشية “سمعة إسرائيل والتضامن العالمي معها”، فضلاً عن أن وسائل التواصل الاجتماعي أعطت القوى “غير الدولتية” القدرة على منافسة الدول في سرديتها عن الحرب.
وقبل غزة، وفي تحليل لمجريات حروب أخرى، قال البروفيسور جوزيف ناي الذي صك تعبير “القوة الناعمة والقوة الخشنة” وتحدث عن “قوة الضعف”، إنه “في عصر المعلومات يتوقف النجاح ليس على من يربح جيشه فحسب، بل أيضاً على من تربح قصته”، والكل يعرف حالياً أن قصة إسرائيل هي الخاسرة، وقصة “حماس” هي الرابحة بسبب الهمجية الإسرائيلية ضد المدنيين. كذلك سجل العالم السياسي الفرنسي برتران بادي أنه “لا حرب لا متماثلة منذ 1943 بين دولة استعمارية ومقاتلين يعبرون عن تطلع مجتمعات للتخلص من الاحتلال والسيطرة الاستعمارية أدت إلى انتصار الدولة في المحصلة النهائية”.
والعقدة، تكراراً، شديدة، فحكومة نتنياهو أو أية حكومة أخرى ليست مستعدة لأن تعلن أنها مهزومة في غزة لأن مثل هذا الإعلان هو بداية النهاية بالنسبة إلى إسرائيل التي لا تتحمل هزيمة واحدة، و”حماس” ليست مستعدة لأن تقبل ما هو أقل من الوقف الكامل والتام للنار وانسحاب إسرائيل من غزة وبدء إعادة الإعمار لأن ما هو أقل من ذلك يعني إسدال الستار على كل ما حدث منذ “طوفان الأقصى”، و”محور المقاومة” بقيادة إيران ليس مستعداً لخسارة حرب الاستنزاف ولا للذهاب إلى حرب شاملة، وأميركا والوسطاء مصرون على النجاح في ترتيب تسوية لأن الفشل يقود إلى وضع متفجر في المنطقة تصعب إدارته، والروس سعداء بالتورط الأميركي، والصينيون لا يريدون حالياً أكثر من مبادرة “الحزام والطريق”. وأهل غزة يدفعون الثمن.