تمر سوريا بمرحلة دقيقة وحاسمة من تاريخها، مرحلة لا يمكن لأي من مكوناتها أو القوى الإقليمية والدولية أن تتنبأ بمآلاتها، بعدما أسقطت الثورة السورية معادلة الأسد الأمنية والعسكرية. ومع انهيار هذا النظام، الذي كان يوظف القوة المفرطة وقبضة الحديد والدماء للحفاظ على بقائه، تظهر أمام السوريين تحديات غير مسبوقة، إذ تتداخل فيها معطيات الداخل والخارج في لوحة شديدة التعقيد.
مع سقوط الأسد، يبرز الفراغ السياسي والدستوري كعقبة في طريق بناء مستقبل سوريا، ويكتسب “الحوار السوري – السوري” أهمية غير مسبوقة كأداة أساسية لبناء هذا المستقبل بعيداً عن هيمنة أي طرف أو قوى خارجية.
ومع ذلك، فإن هذه المرحلة لا تقتصر فقط على الحوار السياسي، بل تتعداه إلى الحاجة الملحة لتشكيل حكومة سورية جديدة، قادرة على تلبية احتياجات السكان وتوفير الأمن وسط الفوضى الشديدة، بالإضافة إلى تحدي الحفاظ على مؤسسات الدولة من التفكك.
كل هذا يجري وسط حالة من الضبابية التي تكتنف التوافقات الإقليمية والدولية، والتي تسببت بالانهيار السريع لمنظومة الأسد، بعد أن انسحب الحليف الإيراني الذي كان يعتبر العامل الرئيسي في تعزيز بقاء النظام، واكتفى الروس بمواقف تتراوح بين الانكفاء والتحفظ وربما الانسحاب من سوريا، يبرز الدور التركي كقوة إقليمية فاعلة ومؤثرة، ولكن في ظل غياب واضح للموقف العربي، تتشابك الخيوط وتزداد الأمور تعقيداً.
بعد عقود من حكم استبدادي سلطوي، فرض فيها نظام الأسد سيطرة مطلقة على كافة مفاصل الدولة، أصبح من الضروري أن ينطلق السوريون إلى مرحلة جديدة، مرحلة يحددون فيها مصيرهم بأنفسهم، وهذا لا يعني القبول بأي شكل من أشكال التفرد بالقرار أو الهيمنة من قبل أي طرف، سواء كان داخلياً أو إقليمياً.
المطالب اليوم لا تقتصر على تغيير الأشخاص، بل على تحقيق تحول سياسي حقيقي، يعيد للشعب السوري حقه في بناء دولته على أسس من التعددية السياسية والشراكة الوطنية، فالانفراد بالقرار أو محاولة فرض سلطات جديدة بالقوة، سيزيد الأمور تعقيداً ويؤدي إلى مزيد من الانقسام.
إن الحاجة إلى تشكيل حكومة سورية مؤقتة باتت أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، حكومة تُمثل السوريين جميعاً، وتعمل على إدارة شؤون المواطنين من خلال توفير الخدمات الأساسية، وحماية حقوق الإنسان، وضمان عودة النازحين. هذه الحكومة لا بد أن تكون بعيدة عن المحاصصات الطائفية أو الجغرافية الضيقة، بل يجب أن تكون حكومة تكنوقراطية، يعتمد اختيار مسؤوليها على الكفاءة والنزاهة، وليس الولاء لأي طرف.
وبطبيعة الحال، في ظل غياب الدولة السورية وانهيار مؤسسات النظام الأمني، تنبع الحاجة الملحة إلى إعادة ضبط الأمن. حالة الفوضى التي تسببت فيها سنوات الحرب قد تؤدي إلى مزيد من الفوضى المسلحة، وتظل مناطق الجنوب السوري، ودمشق، والساحل من أكثر المناطق تعرضاً لهذه الفوضى، بسبب الطريقة العشوائية التي انسحب بها نظام الأسد منها، وبالتالي يجب أن تكون أولوية المرحلة القادمة هي تأسيس قوة أمنية محايدة وقوية تستطيع فرض النظام على الأرض، بالإضافة إلى ضرورة حل الميليشيات وتفكيك المجموعات المسلحة التي لا تخدم سوى أجندات خارجية.
تُعتبر منطقة شمال شرق سوريا واحدة من أكثر المناطق تعقيداً في المشهد السوري الراهن، حيث تمثل نقطة التماس بين مصالح متعددة ومتضاربة، مما يجعلها عرضة لانزلاق أكبر نحو الفوضى.
وبالرغم من هذه الظروف الهشة، يصر البعض على تبني الحلول العسكرية للتعامل مع الأزمة في شمال شرق سوريا، بعيداً عن الحوار السياسي، مما يزيد من احتمالات أن تصبح المنطقة نقطة انطلاق لصراعات أوسع تهدد وحدة سوريا ومستقبلها.
إٌقرأ أيضا : الخيار المتهور لطهران.. خطة صنع القنبلة النووية
وفي هذه الأجواء المشحونة، لا تقتصر التحديات فقط على الأمن وإعادة بناء الدولة، بل يتعين على السوريين العمل الجاد على ملف العدالة الانتقالية، التي تعد أحد الركائز الأساسية لبناء سوريا المستقبل، ويبرز هنا الخطر الكبير الذي يواجه هذا الملف، في ظل استمرار القصف الإسرائيلي المتواصل على الأراضي السورية، الذي لا يقتصر على المواقع العسكرية، بل يستهدف أيضاً المربعات الأمنية في دمشق، حيث يتم تخزين الوثائق والأدلة الجنائية المتعلقة بالجرائم، التي ارتكبها النظام وحلفاؤه الإيرانيون والروس ضد السوريين، وتدور التساؤلات حول مدى إمكانية حفظ هذه الأدلة، التي قد تكون حاسمة في محاكمة المتورطين في تلك الجرائم على مستوى المحكمة الجنائية الدولية، وضمان حقوق الضحايا.
إن تدمير الأدلة قد يحرم الشعب السوري من حقه في تحقيق العدالة ومحاسبة المسؤولين عن القتل والتعذيب والتهجير الجماعي. في هذا السياق، سيكون من الضروري تشكيل هيئات محايدة، تضم خبراء محليين ودوليين، للعمل على حماية الأدلة وتوثيق الجرائم لضمان ألا يتكرر سيناريو الإفلات من العقاب الذي استمر لعقود.
إذاً، بعد سنوات من الدماء والدمار، يظل الأمل في بناء سوريا جديدة مستمراً، برغم حجم التحديات، والطريق إلى هذا المستقبل يحتاج إلى حوار سوري – سوري حقيقي، يعتمد على الشراكة والعدالة، ويقطع الطريق على التفرد بالقرار أو الهيمنة الخارجية، كما أن إعادة بناء مؤسسات الدولة، والحفاظ على الأمن، وضبط الفوضى، وتنفيذ العدالة الانتقالية، ستكون الأسس التي لا يمكن لسوريا أن تستمر بدونها، ومع استمرار الضغوط الخارجية، من المفترض أن يكون الشعب السوري هو من يحدد مصيره، عبر الحوار والتفاوض والمصالحة، من أجل بناء دولة حرة ومستقرة تعكس تطلعات كل السوريين.